تحوّلت مياه المتوسط إلى رقعة شطرنج، اللاعبون كثر، ولكل منهم بيادقه وبالتالي هامشه على التحرك والتأثير. وفي منطقة تتشابك فيها الحدود المائية والاتفاقيات البحرية وتتوالى فيها الاكتشافات النفطية، يصعب الحديث عن “كش ملك”، إلاّ أنّ الأكيد أنّ مياه المتوسط ستكون ساحة جديدة للمواجهات مع تصدّر تركيا واليونان وفرنسا وقبرص المشهد، ودخول الولايات المتحدة على الخط. الأحد الفائت، سحب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سفينة الأبحاث “أوروتش” من المياه المتنازع عليها مع اليونان، وهي خطوة “مفاجئة” فسرها البعض بانسحاب، أما آخرون فاعتبروها “وقفة تكتيكية” بعد التحذير الأميركي من خطورة تحركات أنقرة.
في تقرير نشره موقع “المونيتور” الأميركي، قال المحلل التركي جنكيز جاندار إنّ البيان التركي الرسمي الذي ربط انسحاب السفينة بالحاجة إلى إعادة تزويدها بالوقود والصيانة “لم يقنع أحداً”، علماً أنّه كان يُفترض أن تواصل عملها حتى 25 أيلول الجاري.
وعلّق جاندار: “يبدو أنّ رجل تركيا القوي، الرئيس رجب طيب أردوغان، كان أوّل من يرمش في المواجهة، وذلك أمام حملة الضغوط العالمية التي يقودها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون”. وفي هذا الإطار، تحدّث الكاتب عن ظروف الخطوة التركية،
مذكراً بزيارة رئيسة اليونان، كاترينا ساكيلاروبولو، إلى جزيرة كاستيلوريزو قبالة سواحل أنطاليا، وهي الجزيرة التي تصدرت الخلافات بين أنقرة وأثينا عقب إرسال اليونان حشوداً عسكرية إليها.
وأوضح جاندار أنّ الزيارة اليونانية هذه أثارت استفزاز الجانب التركي، ما دفع وزير الدفاع وكبار الضباط العسكريين إلى زيارة مدينة كاس الساحلية، الكائنة بمحاذاة الجزيرة اليونانية. كما أكّد جاندار أنّ انسحاب السفينة التركية جاء بعد تصريح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو- من جزيرة قبرص اليونانية (لا تعترف تركيا بها)- الذي نادى بضرورة خفض التصعيد ودعا تركيا إلى وقف أعمال التنقيب في المنطقة المتنازع عليها.
في قراءته، اعتبر خاندار أنّ أردوغان “تراجع”، مستدركاً بالقول: “من الواضح أنّه يضبط توقيت عودته بدلاً من العمل على خفض التصعيد وإعطار الأولوية للجهود الديبلوماسية”. وكتب خاندار: “تنازل أردوغان ضمناً لخصمه الجديد ماكرون”، مذكراً بتصريحه خلال قمة دول الاتحاد الأوروبي المتوسطية: “لم تعد تركيا شريكاً في شرق المتوسط. وأردوغان السبب”.
وتابع جاندار: “كان رد أردوغان شرساً كالمعتاد، ولكن لا بد من أنّه أدرك خلال القمة أنّ دول الاتحاد الأوروبي المتوسطية ستصطف في النهاية إلى جانب اليونان وفرنسا”، مشيراً إلى أنّ المجلس الأروبي سيناقش فرض عقوبات على تركيا في 24 و25 أيلول. في السياق نفسه،
ربط خاندار بين تراجع أردوغان وخفض تصنيف تركيا الائتماني إلى أدنى مستوى على الإطلاق؛ وخفضت وكالة موديز (Moody's) التصنيف الائتماني لتركيا من “بي 1” (B1) إلى “بي 2” (B2) مع نظرة مستقبلية سلبية، وقالت إن نقاط الضعف الخارجية للبلاد ستتسبب على الأرجح بأزمة في ميزان المدفوعات.
وفي تقريرها، تحدّثت الوكالة عن 3 دوافع رئيسية لخفض التصنيف، مرجحةً أن تتسبب نقاط الضعف الخارجية التركية بأزمة في ميزان المدفوعات. وأضافت الوكالة: “مع تزايد المخاطر التي تهدد الوضع الائتماني لتركيا، يبدو أن مؤسسات البلاد لا تنوي أو لا تقدر على التعامل بشكل فعال مع هذه التحديات”.
ونظراً إلى حدة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بتركيا وفشل المساعي الرامية إلى مواجهة انخفاض الليرة في مواجهة الدولار واعتماد تركيا على الأسواق الخارجية للتصدير، لا سيما الاتحاد الأوروبي، حذّر خاندار من أنّ عقوبات الاتحاد الأوروبي على تركيا قد تخلّف آثاراً “مميتة” على الاقتصاد التركي وفرص أردوغان في البقاء.
وعلى الرغم مما ذكره أعلاه، استبعد خاندار ميل أنقرة إلى الديبلوماسية لحل النزاعات مع اليونان، متحدثاً عن ضآلة هذا الاحتمال في عهد أردوغان. وكتب خاندار: “تُعتبر سياسة أردوغان الخارجية انعكاساً لأسلوبه الجائر في السياسة الداخلية حيث لا يُترك مجال للمعارضة”. في هذا الصدد، تطرّق خاندار إلى حلفاء أردوغان “القوميين المتشددين”، بمن فيهم جنرالات سابقون متشددون، ملمحاً بهذه العبارات إلى الأدميرال المتقاعد، جيم غوردنيز، وهو أول من وضع نظرية “الوطن الأزرق” في العام 2006، عندما كان رئيس الوحدة المسؤولة عن خطط وسياسات تركيا البحرية. وتشمل هذه النظرية أكثر من 460 ألف كلم مربع من حدود تركيا البحرية، بما فيها المسطحات المائية المحيطة ببعض الجزر اليونانية.
وعليه، استبعد خاندار إفساح مجال للديبلوماسية والمفاوضات في شرق المتوسط، ما دام أردوغان متحالفاً مع القوميين المتشددين، مدرجاً خطوة سحب “أوروتش” في إطار الجهود الهادفة إلى تفادي العقوبات الأوروبية المحتملة، ومشدداً على حاجة الرئيس التركي إلى تعزيز حس القومية من أجل تدعيم قاعدته الشعبية.