الصمت.. لغة الغيم العابر
الوقت: قبل غروب الشمس بساعة تقريبا.
المكان: على بُعد أمتار قليلة من امتداد الشاطىء, حيث تلفظ الأمواج أنفاسها الأخيرة.
صورة مشهد السماء: إنتشار كثيف لأعداد هائلة من الغيوم, بتشكيلات مذهلة من حيث التجمّع والتفرّد والتراصف والتباعد.
وكلّما صارت إحدى الغيمات أو مجموعة منها, في مواجهة مع الشمس, كلّما ازدادت صورة المشهد روعة, مع الخيوط الذهبية التي كانت تنسلّ خلسة بانسيابية رقيقة, حتى إذا ما اجتمع أكبر قدر من التفاصيل, تشكّلت حال من الإستفزاز الحقيقي, لعدسة مصوّرينتظر فرصة أو حدثاً ما.. لريشة رسّام استقرّت منذ زمن على طاولة منسية.. لقريحة أديب تراكم الغبار عليها بقدر ملحوظ.. لموسيقى عازف ابتعدت نوتات أي لحن جديد عن خياله, لمسافات لا يُستهان بها…
لقد شعر وهو يتأمّل هذه القوافل من الغيوم, على مساحة الأفق وفوق رأسه, برغبة لأن يحاول فهم شيء ما يخصّ هذه الكُتل التي تطالها العين فقط.
أخذ يتفحصها أكثر فأكثر, رغم حركتها البطيئة, نسبة إلى حاسة النظر البشرية.. ورغم تبدّل حالها طولا وعرضا وانتفاخا وضمورا.
ترى.. هل تملك هذه العابرات لغة خاصة بها..؟.. هل لديها مفردات وعبارات وجمل تعبّر بها عن تكوّنها وتلاشيها.. عن المناطق التي تشكّلت في أجوائها, والتي مرّت فوقها قبل اختفائها, عن الرفيقات التي صادفتها خلال رحلاتها القصيرة والطويلة وفي كل الفصول, وعلى مدار الساعة!..
ترى.. هل من قواسم مشتركة بين حياته, وهذه الماضيات فوق رأسه يوميا دون استئذان ودون إيلاء أي اهتمام لرغبات بني البشر؟.. ربما هناك رغبة داخلية في أن تحمله إحداها إلى مكان آخر.. ليس مهماً إلى أين.. المهم أن ينتقل بعيدا من هنا, خاصة بعد أن استبدّ به إحساس بأن كلمته قد دخلت في حالة غيبوبة.. وأن الريح الشعواء قد اقتلعت شُجيرة الورد الوحيدة لديه, التي تفتحت براعمها في السنوات الأخيرة.. وأن المنجل قد حصد سنابل حقله قبل أوانها…
ما زال يحدّق في السماء, وكأنه يودع الغيمات التي صار نظره بالكاد يميزها, ليستقبل مجموعات أخرى, استفزّت فيه حبّ التعرّف إلى ما قد تحمله في انتفاخها, لكنه عاد إلى واقعه من جديد, فقد غابت الشمس, وأصبح الأفق داكنا, فمضى في طريق العودة إلى بيته, لكن صدى ما كان يتردد في رأسه :” الصمت هو لغتنا.. الصمت هو لغتنا”.