كتبت زيزي اسطفان في “الراي الكويتية” تخْجل الكلماتُ وترتجف الأحرفُ، تثور ثم تصمت أمام نكبةِ عاصمةٍ وَجَدَت نفسها في قلب “محرقةٍ” التهمتْ العشرات من أبنائها ولم توفّر رعايا عرباً وأجانب…
في 4 أغسطس، حلّت فاجعةٌ سُفك معها دمُ طفولةٍ بريئةٍ واغتيل شبابٌ عابِقٌ بالأحلام وطُويت عنوةً صفحاتٌ مليئة بالحب والعطاء… فكان الموتُ مضاعَفاً، لأحبّةٍ حلّقوا على أجنحة كارثةٍ مأسوية طرقتْ أبوابهم فسرقتْهم من قلب بيوتهم أو صرعتْهم على قارعة الطريق، ولقلوبٍ جريحةٍ لن تدقّ بعد اليوم إلا حزناً على مَن غابوا.
الجمرة في بيروت المنكوبة تحرق أكثر من مكانها، تحرق قلوب مَن لهم قلوب… نحو 185 ضحية حتى الساعة كُتبت لكل منهم نهايةٌ مُفْجِعة في «بيروتشيما» الذي دمّر أكثر من نصف العاصمة اللبنانية… قصصهم صارت محفورةً بالدم والدمع، في «أرض تسونامي النار» (مرفأ بيروت) وعلى امتداد البقعة التي طالها عَصْفُ الموجة الانفجارية التي تسبّبت بأضرار فادحة على مسافة 3 كيلومترات من «مركز» الانفجار – الزلزلي، ووصل مداها الى 24 كيلومتراً.
… عائلات مفجوعة دَهَمَها «الموت المُفبْرك» الآتي من الميناء السائب والدولة الفاشلة… أطفال غادروا مع قناديل المساء في أحضان مدينةٍ تَبَعْثَرَتْ كأنه الجحيم… هم وجوه وحكايا جمعْنا بعضها كي لا يبقى «اللي راحوا» مجرّد أرقام أو قتلى برتبة شهداء أو مجرّد أسماء على لائحة الموت السوداء.
طفلة السنوات الثلاث
وقْعُ خبر وفاة ألكسندرا نجّار، أو “ليكسو” كما يناديها والداها تريسي وبول، طفلة السنوات الثلاث التي كانت تضج حياة وطفولة وبراءة، كان أشد قسوة على اللبنانيين من الانفجار ذاته الذي خطف منها طفولتها وتركها تتخبط وسط ركامِ بيتها مصابة بضربة في الرأس حتى رحيلها الصادم بعد 3 أيام صارعت خلالها الموت في المستشفى.
ورغم هول المآسي الذي عاشها لبنان في تلك الأمسية المشؤومة، شكّل هذا الخبر طعنةً مؤلمة أصابت كل لبناني بالصميم فشعر كأن ألكسندرا في بيته. الكل احتضن صغاره بخوف ورفعوا الصلوات معاً لروحها قبل أن يحلّ الصمت الأبدي.
هذه الطفلة التي عرفتْها ساحات الثورة حين كانت ترافق والدها حاملةً علم لبنان، كانت تلعب هانئة في بيتها بين والدين يريان الدنيا من عينيها. دوى الانفجار طارت الوالدة وقُذفت “ليكسو” من مكانها ثم وقعت على الأرض.
رغم مصابها وأوجاعها، كان هلع الأمّ على صغيرتها أقوى فارتمت فوق جسد طفلتها الصغيرة لتحميه من الركام المتطاير. الوالد نفض عنه غبار الردم والركام وهرع نحو ابنته وزوجته، حمل طفلته وهرول نحو الشارع محاولاً وسط الزلزال أن يشقّ طريقاً للوصول بها الى أقرب مستشفى… صمدتْ 3 أيام ثم استسلم جسدها الصغير.
“ليكسو” تركتْ ألعابها بعدما اقتادَها التفجيرُ الغادِرُ إلى ملعب الموت… تركتْ منزلاً ملأتْه ركْضاً وضحكات… تركتْ قصصَ القمر والغيمة، لتنطفئ شمعتُها باكراً ويغيب “وجه القمر” خلف غيمةٍ صارت ترقد عليها ملاكاً حارساً لعائلةٍ مفجوعة لم يعتقد الوالد (بول نجار) أنه لن يتمكّن من أن يكون حارسَها “قتلوها في قلب منزلنا، لم نكن بأمان في المكان الذي يفترض أن يكون الأكثر أمناً”.
الأب الذي يعضّ على جراحه وهو يستعيد لحظاتِ الفاجعة بعينين انطفأ فيهما “ضوء حياتنا”، زفّ أميرته الصغيرة «ضحيةً وليس شهيدة، ضحية جريمةٍ بحق الحب»، قبل أن يعاهد “ليكسو” وهو يُمسك بيد زوجته ترايسي “لن نفلت يدك، وسنبقى على عهدنا لك بأن حبّنا الذي ينبض به قلبنا لن ينضب… تا تخلص الدني”.
ألكسندرا تحوّلت أيقونة الثورة اللبنانية… خُطفت من دفء العائلة إلى سريرٍ بارد… سُرقت من عيون والديْن سيعانقان صورها وذكريات العمر القصير معها وحتى الأحلام التي رسماها لها قبل أن تنكسر مع قلبيهما اللذين يأبيان أن يودّعاها “فهي هنا معنا في كل دقيقة ولكن… مغطاية بعلم لبنان”.
“لقمة العيش”
كان علي مشيك وهو موظّف بسيط يعمل في مرفأ بيروت قد أنهى عمله وعاد إلى بيته وحضن عائلته، حين ورده اتصالٌ من إدارته للعودة الى العمل لتفريغ شحنة من الطحين، على أن يتقاضى بدلاً قدره خمسة آلاف ليرة لبنانية عن ساعة العمل الإضافية الواحدة (أي أقل من دولار أميركي واحد وفق سعر السوق السوداء).
ربّما فكّر في نفسه أنها فرصة لجني ولو يسير من المال يسْند بواسطته عائلته في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها كل عائلة في لبنان. لم يتباطأ بل جرى جرياً نحو ما كان يخيّل إليه أنه بقعة ضوء في الظلمة الاقتصادية التي يعيشها، فإذ به يركض نحو الموت بثمن بخس. فُقد لأيام عديدة وترك عائلته في انتظار مضنٍ قبل أن تُكتشف جثته تحت الأنقاض التي خلّفها الانفجار وتُنْهي الفاجعةُ انتظارَ الأهل.
الأم والسنَد
لم تكن هالة صباغ طياح، السيدة المليئة بالحياة والإبداع ومصمّمة المجوهرات لتتخيّل يوماً أن خريطة لبنان التي حوّلتْها أيقونة من ذهب وألبستْها في أعناق السيدات ستنغرز شوكةً دامية في قلوب كل مَن أحبها. فهذه الأم المؤمنة ربّت ثلاثة أولاد وأنعم الله تعالى عليها، كما كانت تقول بنعمة مميزة هي ابنتها تيا المصابة بالتوحّد، فكرّست وقتَها وجهدَها لها واعتبرتها “نعمة” من السماء ممنوحةً لها لتشهد أمام الجميع كيف أن الحب يداوي التوحد وكل الأمراض.
من تجربتها كانت تساعد الآخرين في التعامل مع أطفالهم المصابين بالتوحد ومن خبرتها كانت تمدّهم بالنصح. لم يَثْنِها واجبُها كأم عن إفراغ ما في نفسها من حسٍّ جمالي وحب للإبداع، فكانت مصممة مجوهرات نجحت في عملها
لا سيما بقطعتها المميزة التي سكبت فيها خريطة لبنان ذَهَباً وكأنها كانت تدرك أن حبّها لوطنها سيكون يوماً أقوى من كل الجرائم التي ارتُكبت باسمه.
كل مَن عرف هالة عرف فيها المرأة المثقّفة الراقية وصاحبة القلب الكبير والابتسامة الدائمة رغم صعوبة الواقع الذي تعيشه مع ابنتها. هي التي أفنت عمرها لتكون الأم والسنَد لـ«تيا» تراها اليوم تنظر من فوق الى الابنة الحبيبة وإخوتها ليحميهم من كل شرّ.
“جيما”
حين أصيبت ابنته “جيما” بالمرض الخبيث، كان جهاد سعادة في افريقيا، وحين استقرّ رأي الأطباء على أن تخضع لعلاج كيميائي كان القرار بأن تتلقى العلاج في مستشفى الروم في الأشرفية.
“جيما” وفق ما روى طبيبها المعالج بيار نون رفضتْ أن تدخل المستشفى وتبدأ رحلة العلاج من دون والدها، فترك عمله في أفريقيا، ترك كل شيء وعاد ليقف قرب صغيرته ويكون السنَد لها في محنتها.
يوم الرابع من آب اصطحبها الى مستشفى الروم ف
ي الأشرفية لتخضع للعلاج في الطابق التاسع في القسم المخصص للأطفال المصابين بالسرطان. وقرابة الساعة السادسة وعشر دقائق وفيما كان هو ووالدتها جنْبها يقفان على أدنى متطلباتها ليخفّفا عنها، إذ بالانفجار الرهيب يدوّي فتتطاير معه جدرانُ المستشفى ويَسقط جدارٌ على جهاد، ليأخذ الموت الخبيث هذا الوالد الحنون الذي جهد ليقوي ابنته في صراعها مع المرض الخبيث فإذ به يفتديها بحياته.
إنقاذ حياة
لم تكن هيدويغ والتمانس موليير، زوجة السفير الهولندي في بيروت جان والتمانس تعرف أن زيارتها لهولندا لرؤية الأهل والأصدقاء ستكون الأخيرة لها وأن عودتها الى لبنان البلد الذي أَحَبّتْه وزوجها ستكون زيارة اللاعودة وستدفن مع أبنائه وسط الأنقاض.
هذه السيدة المثقفة الرقيقة التي تعمل في مكتب وزارة الخارجية مع زوجها لم تستطع أن تصمد أمام عصف الانفجار الهائل فقذَفَها كدمية من ورق نحو خارج غرفة المعيشة حيث كانت تقف مع زوجها في منزلهما المطلّ على المرفأ فأصيبت إصابة بالغة لم يتمكن جسمها من تحملها ففارقت الحياة متأثّرة بإصابتها. لكن بوفاتها كتبت هدويغ الحياة لآخَرين بعدما وهبت عدداً من أعضائها ونجحت عمليتا زرعٍ لمريضين كانا بحاجة إلى كلى.
حرقتِ قلبي
على ذوقها كانت تبني بيت المستقبل، ومع عريسها كانا يضعان الخطط لحياة ملأى بالحب والتفاهم. في عصر ذلك اليوم المشؤوم لبّت سحر نداء الواجب مع 9 زملاء لها في فوج الإطفاء وانطلقوا في مهمة روتينية لإخماد الحريق الذي شبّ في المرفأ.
“ضريبة الدم”4
كثيرة هي قصص الرحيل، تتوالى فصولها كئيبة مؤلمة تتوزّع بين البيوت المنكوبة والعائلات الحزينة. والبيوت ليست فقط منازل بل أيضاً مستشفيات وجامعات ومؤسسات، كما العائلات ليست فقط تلك التي تجمع بينها روابط الدم بل عائلات الزمالة في العمل والجيرة في المباني والتكاتف في تلبية الواجب.
في مستشفى الروم كنّ أربع ممرضات يلبين نداء الواجب ككل يوم: لينا أبو حمدان، جيسي قهوجي داوود، جيسيكا بازدجيان وميراي جرمانوس ومثلهنّ كانت جاكلين جبرين تؤدي واجبها في مستشفى الوردية.
مهمتهن كانت إنقاذ الأرواح وتخفيف أوجاع المرضى وبلسمة جراحهم. لم يدركن أن القدَر سيفتح في أجسادهن جراحاً قاتلة وفي قلوب أحبائهن جراحاً نازفة… لم يتخيلن أن الموت سيكون أقرب إليهنّ من المرض الذي كنّ يعملن على محاربته. دفعن حياتهن فداء عن أرواح مرضاهن، وقد نعتهن نقابة ممرضات وممرضي لبنان في بيان:
“إنها ضريبة الدم تدفعها مهنة التمريض من جديد وتقدّم خيرة شاباتها وشبابها فداءً عن الإنسان والمجتمع والصحة. إنه قدَر الممرضات والممرضين الذين لم يبخلوا يوماً عن تلبية نداء الاستغاثة لنجدة وإسعاف المصابين والجرحى والعناية بالمرضى والمحتاجين مهما كان ثمن التضحية غالياً. إنه نضال الأبطال الذين برهنوا مرة جديدة أنهم صمام أمان وخطّ الدفاع الأول عن الناس في كلّ الأزمات والكوارث، وكلّما سقط شهيد يعاهده زملاؤه بتكملة المسيرة”.
وكذلك سقطت شهيدةَ رسالتِها الأخت صوفي خسروفيان من راهبات المحبة التي أفنت عمرها في خدمة الفقراء تخفف عنهم وتساهم في تربية جيل جديد وتعليمه مبادئ المحبة والإيمان.