لا شك في أن الحكم الذي صدر عن الغرفة الأولى في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قد فاجأ الجميع، بمن فيهم أثنان، الرئيس سعد الحريري، الذي أعلن قبوله بهذا الحكم، و”حزب الله”، الذي لم يعلق على الحكم بعد، لا سلبًا ولا إيجابًا، مع العلم أن الأمين العام السيد حسن نصرالله سبق له أن حدّد موقفه من هذه المحكمة، وهو بالتالي لا يمكنه الإعتراف بها، على رغم أن حكمها الأولي جاء لمصلحة الحزب، مع العلم أنه ضمنيًا راضٍ عن هذه النتيجة، لأنها تضع حدًّا لمرحلة ضبابية، وتؤسّس لمرحلة جديدة، يبدو أن جميع الأطراف في الخارج والداخل مشاركون في صفقة تبدأ في واشنطن ولا تنتهي في طهران، ويمكن بالتالي الإعتقاد بأن ثمة محاولات لتهدئة الوضع الإقليمي عشية الإنتخابات الأميركية، وما يمكن أن يسفر عنها، سواء بقي الرئيس دونالد ترامب أو رحل، ولكل من هذين الإحتمالين سيناريو خاص ينسجم مع مندرجاتهما وحيثياتهما ونتائجهما.
وفي إعتقاد بعض الأوساط السياسية أن صدور الحكم الأولي عن المحكمة الدولية بهذا الشكل قد يدفع بالبعض لإعادة حساباتهم بالنسبة إلى مطلب تدويل التحقيق في إنفجار المرفأ، مع ما يمكن أن يترتب عليه من مفاعيل سياسية قد تثمر بعض الإيجابيات على صعيد تشكيل الحكومة العتيدة، تكليفًا أولًا ومن ثم تأليفًا، إذ لا يجوز تكرار تجاوز الدستور والأعراف، التي تحافظ على التوازنات السياسية، وتكرار تجربة حسّان دياب، الذي لم يشارك في عملية التأليف إلا صوريًا ومن أجل حفظ ماء الوجه.
وترى هذه الأوساط أنه بعد كارثة إنفجار المرفأ لن يكون كما قبلها، لا في الأسلوب ولا في الجوهر، لأن الجميع مدعوون إلى تحمّل مسؤولياتهم والتعالي عن بعض الصغائر، وتجاوز المرحلة الضبابية، التي كان يحجبها عن الحقيقة غموض وإلتباسات، يؤمل في أن يكون الحكم الدولي قد أزال بعضًا من هذه الإلتباسات، أقله في ما يخصّ مستقبل العلاقات اللبنانية – اللبنانية، في ضوء ما يتناهى من أجواء خارجية، يُعتقد أنها تميل إلى الإيجابية في كثير من الملفات العالقة، ولا سيما على صعيد العلاقات المتوترة بين الأميركيين والإيرانيين، الأمر الذي يؤّشر إلى إستعداد “حزب الله” للتنازل عن بعض ما في أجندته من إستحقاقات، ومن بينها القبول بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والحدود البرّية مع سوريا.
وفي الإعتقاد أن “حزب الله”، الذي تجاوز قطوع المحكمة الدولية، والذي هو مقدمة لصفقة أكبر على مستوى المنطقة، على إستعداد، على ما يبدو، للدخول في تسويات داخلية، والبدء بالتخلي عن دوره الإقليمي، والعودة إلى “لبننة” خياراته الداخلية، كمقدمة لا بدّ منها لكي تكتمل عناصر الصفقة – التسوية، ومن بينها إعادة الإدارة الأميركية حساباتها الإقليمية، في ضوء الأتفاقية المبرمة بين تل أبيب ودولة الإمارات العربية المتحدة، في ما يتعلق بموضوع العقوبات المفروضة على “حزب الله”.
أولى المؤشرات الإيجابية، في حال صحّت التوقعات، تكليف الرئيس سعد الحريري لتأليف حكومة تكنو- سياسية، يكون من بين أولوياتها إعادة إعمار بيروت كمرحلة أولى، ومن ثم الإنكباب على تأمين الظروف المناسبة لإجراء إنتخابات مبكرة، مترافقة مع إصلاحات ضرورية، وبالأخص في ما يتعلق بقطاع الكهرباء، والعودة إلى مفاوضات جدّية وجديدة مع صندوق النقد الدولي، على اسس علمية وواضحة.
من جهة ثانية، وعلى رغم مسحة التفاؤل هذه، فإن الأوساط نفسها تحذّر من مرحلة التفاصيل، التي يسكنها ألف شيطان وشيطان، وعدم الإنسياق كثيرًا وراء ما يمكن إعتباره “سرابًا”.