تستمرّ بيروت المنكوبة بلملمة ضحاياها، وأشلاء الدمار. وفي خضمّ المشهد الأليم، يمكننا ملاحظة تلاشي الأزمات المتراكمة أو تعليقها إلى حين متاجرة جديدة. فالتغذية الكهربائية استعادت وعيها إثر صدمة تفجير بيروت، وسعر صرف الدولار دخل مرحلة صمت غريبة واستعادة الليرة بعض عافيتها، والخبز عاد إلى البيوت رغم دمار إهراءات القمح في انفجار المرفأ، ومحطات الوقود نبَع فيها البنزين والمازوت بسحر ساحر. أما أصحاب المولّدات، فتراجعوا عن قرار معاقبة اللبنانيين الجماعي، ومن غير تسوية.
فإما هذه “الصحّة” المفاجئة في كلّ المرافق هي دليل على أنّ الأزمات كانت مفتعلة، عبر أصحاب النقابات ومن يقف وراءها، لتحصيل المزيد من الأرباح، وإما هذا دليل على تقاعس أجهزة الدولة، التي كانت قادرة على ضبط بعض الأزمات، وتمنّعت عن ذلك، ورأت الآن وسيلة لاسترضاء المواطنين الغاضبين بعد حلول الكارثة. فهل فعلاً هذه السيناريوهات دقيقة، أم أنّنا أمام مرحلة انتقالية فرضها هول المشهد وسنعود لتلاطم الأزمات في القريب العاجل؟!
يؤكد الخبير المالي رئيس “تجمّع استعادة الدولة” حسن خليل أنّ “هناك أزمات مفتعلة نعم، ومنهجاً لقهر الشعب اللبناني، عادة ما تلجأ إليه الأطقم السياسية المهترئة ليبرّر كلّ فريق خطاياه”. ويوضح أنّ هذه الأزمات يتمّ اللجوء لها أحياناً لاستغلال مادي أو لرفع السعر، وحتى أحياناً بغبر علم الزعيم”. ويتابع: “في هذا البلد كل مين فاتح ع حسابو وعامل عصابة”. ويرى أنّ “الأداء المتقاعس للأجهزة المعنية في الدولة يسهّل استغلال الأزمات والتلاعب بها”.
وفي جولة سريعة على بعض أصحاب النقابات التي شهدت قطاعاتهم أزمات ما قبل انفجار 4 آب. ويؤكد رئيس نقابة أصحاب المخابز علي ابراهيم أنّ الأزمة بالأساس لم تكن بنقص المواد، بل “بيننا وبين الوزارة وهي المشكلة التي حلّت برفع سعر ربطة الخبز”. واليوم يطمئن إبراهيم اللبنانيين بأنّ “لدينا قمح وطحين في المطاحن يكفي حاجتنا لشهر، بالإضافة لكميات أخرى في 4 بواخر في المياه الإقليمية اللبنانية ستفرغ حمولتها في صيدا وطرابلس، وتكفي هذه الأخرى حاجتنا لشهر إضافي”. ويطمئن إلى أنّه لا مشكلة حتّى في الأهراءات، إذ يوجد أهراءات خاصة في أماكن متعدّدة من لبنان يمكن استعمالها في معمل غندور، وسلعاتا، والمدينة الرياضية وغيرها.
نقيب أصحاب محطات الوقود ?سامي براكس يؤكّد أنّ أزمة الوقود كانت مفتعلة. يرفض تسمية المفتعلين، ويشدّد على أنّه ما قبل الانفجار كان هناك حجز على الوقود “وما حدا كان عم بردّ ع حدا”. أما اليوم، فاختلف الوضع “وتخلصنا من الحجز الخارجي، والاحتكار الداخلي بعد الكارثة التي حصلت”.
رئيس تجمّع أصحاب المولّدات الكهربائية عبدو سعادة، يفسّر الحلحلة الحاصلة في أزمة أصحاب المولدات، بلقائهم الأخير مع الأمن العام قبل أيام من الانفجار: “بدأت مفاعيله تثمر قبل يومين من الانفجار، وصولاً إلى اليوم. إذ يقوم اليوم الأمن العام بمراقبة أسعار الوقود، ويمنع احتكار أصحاب المحطات والتجار الذين كانوا يحتجزون المخزون ويستثمرونه في السوق السوداء”.
لكن ماذا عن الليرة واستقرار سعر الصرف؟
يوضح الخبير الاقتصادي والمالي وليد أبو سليمان أنّ عودة مصرف لبنان عن قرار حصر التحويلات من الخارج بالليرة اللبنانية في شركات تحويل الأموال، والسماح بوصولها إلى السوق اللبناني بالدولار، بالإضافة إلى المساعدات التي جاءت من الخارج لأفراد أو لمؤسسات إنسانية، والمتوقع زيادتها في المرحلة المقبلة، كلها انعكست على سوق الصرف: “لبنان كان ينهار من دون أن يجد من يمدّ له يد العون. وبعد هذه النكبة، نلحظ تعاطفاً دولياً كبيراً”.
يوضح أبو سليمان أن “لا إمدادات لإعادة تحريك العجلة الاقتصادية، والنهوض بالاقتصاد اللبناني. هذا صحيح. لكن هناك إمدادات إنسانية موجّهة إلى الشعب، وهي التي ستخفّف من حدّة الأزمات التي نعيشها”، عبر ضخّ العملة الصعبة في البلاد، ويضيف: “أما الدولة، فهي أعجز من أن تسيطر على أيّ أزمة من الأزمات التي نعيشها”.
الخبير المالي الاقتصادي إيلي يشوعي يؤكد بدوره أنّ “شهر تموز الماضي شهد عودة مغتربين بعد فتح المطار، يحملون كمّيات من العملة الصعبة، ما خفّف من حدّة انهيار سعر صرف الليرة. لكن كلّ الذي أتوا سيسلكون طريق العودة. وهذا الانفجار لم يدرّ بعد عملات صعبة في السوق، بل مساعدات عينية”. ويشدّد يشوعي على “حاجة لبنان لما لا يقلّ عن مليار دولار من المساعدات، وليس ديوناً بالطبع، بهدف مساعدة الناس في ترميم وإصلاح بيوتها المدمّرة. وهي الأموال التي سيكون لها تأثير إيجابي محدود على سعر صرف الليرة، لأنّ جزءاً أساسياً سيكون لاستيراد المواد الأوّلية اللازمة لإعادة الإعمار، ولن يُصرف داخل السوق”.
ورأى يشوعي أننا “أمام فظاعة الانفجار، تحتلّ كلّ المشاكل الأخرى مرتبة ثانية وثالثة ورابعة، كون الأولوية للجرحى، ولنتائج التحقيق، وإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل التفجير، وللتعويضات”. لكن الأزمات الأخرى ستبقى “هي هي” برأي يشوعي، وما تغيّر هو نقطة الجذب. يجزم أنّها م تكن أزمات وهمية: “بل حصاد ما زرعناه، وستطفو من جديد على سطح المشاكل السياسية والاجتماعية في لبنان قريباً جداً جداً”.
المصدر: اساس ميديا