كتب عصام الجردي في “المدن”: لم يحظ بلد في العالم مثلما حظي به لبنان في غضون 20 سنة من مؤتمرات دعم ومساعدة. رغم الأزمات الكبيرة التي عصفت باقتصادات الدول المانحة والمُقرضة منذ 2008 انهيارات وركودًا وبطالة،
ثم تداعيات جائحة كورونا التي رصدت لها حزمات من التريليونات، وكانت كافية لضرب النمو من جديد وعودة البطالة إلى خانة الرقمين بسرعة مذهلة. والمواجهة لم تنته بعد. ولم تبدّد دولة مثلما بدّد لبنان كل المليارات التي حصل عليها قروضًا ميسّرة ومساعدات.
وفي كل مرّة كان يتم تجديد شروط الإصلاحات. في 2020 انتهى شراء الوقت وتوقف نبض الاقتصاد وحصل الانهيار المنتظر. وما عادت مقومات الحياة الطبيعية متوفرة. والمال ينتظرنا. فقط قوموا بالإصلاحات يقول المجتمع الدولي.
صندوق النقد الدولي جاهز وتعهدات مؤتمر سيدر. كلّا.. أيقنت الدول المعنية الحقيقة. الإصلاحات على أنقاض الفساد تعني امتيازات المنظومة السياسية. حكمًا وحكومة ومجلس نوّاب. الهجمة المضادة على صندوق النقد كانت على هذه الخلفية.
أبعد من المساعدات
لا يمكن النظر إلى المؤتمر من البعد الإنساني لزلزال مرفأ بيروت وتداعياته التدميرية فحسب، بل عودة الاهتمام الدولي والعربي بلبنان. ومنعه من السقوط من خلال تغيير سياسي واقتصادي شدّد عليه بقوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ودعا إلى “التحرك لاجتناب غرق البلاد ولاستجابة التطلعات التي يعبر عنها الشعب اللبناني حاليًا بشكل مشروع في شوارع بيروت. علينا أن نفعل جميعًا ما أمكن لكي لا يهيمن العنف والفوضى على المشهد في لبنان”. وطلب تحقيقًا ذا صدقية في انفجار المرفأ. أكّد أنّ “فتح تحقيق شامل في تفجير بيروت هو مطلب للشعب اللبناني، وأنّ دور المجتمع الدولي هو أن يكون في صف الشعب اللبناني“.
سواءٌ استقالت هذه الحكومة أم لا، فلبنان يواجه حالة إنكار سيادية وسياسية. كلام تقليدي من رئيس الجمهورية ميشال عون عن السيادة مفاده هذا يحصل في عهدي وذاك لا يحصل. و”المطالبة بالتحقيق الدولي في قضية المرفأ الهدف منه تضييع الوقت. والقضاء يجب ان يكون سريعًا من دون تسرّع للتأكيد من هو مجرم ومن هو بريء”. على ما جاء في بيان مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية. وننسى أنّ فرادة المؤتمر هذه المرّة ليست بهذا الرهط من رؤساء الدول الكبرى في العالم والدول العربية من أجل لبنان،
بل وبقرار المؤتمر المسبق بأن تكون المساعدات الإنسانية من خارج الدولة اللبنانية وللشعب اللبناني مباشرة عبر وكالات الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي. كشعب لا يسعنا سوى التعبير عن امتناننا لهذا الدعم العربي والدولي السريع. لكننا نصاب بالاحباط أن تكون الدولة حكمًا وحكومة مقصيّة عنه لعلّة في الثقة المفقودة من الشعب قبل الدول المانحة. هذه هي السيادة المنقوصة.
لا يأتي ضيف إلى وطن ودولة يستبق لقاءاته الرسمية بمسؤوليها بالتحذير من الفساد، والمطالبة بإصلاح النظام السياسي والكهرباء ومصرف لبنان والجهاز المصرفي. وبالاستماع إلى الشعب وتحركاته في الشوارع. لقد تبلّغ رئيس الجمهورية الرسائل عبر أقنية التلفزة مباشرة قبل سماعها من ماكرون. ونتحدث عن سيادة وسياديين.
نأتي إلى التحقيق. ما حصل في مرفأ بيروت يخترق كل مقومات السيادة والأمن القومي. الجريمة ليست محلية. الجريمة إنسانية. ومتعددة الجنسيات فرنسية وألمانية وهولندية بالإضافة إلى اللبنانيين والسوريين وغيرهم. هل ترك رئيس الجمهورية مكانًا للقضاء حين يشكّك بنزاهة التشكيلات القضائية التي وضعها مجلس القضاء الأعلى ولا يصدرها بمرسوم؟ كل ما يقوم به الحكم يؤدي إلى مزيد من تقويض الثقة بمؤسسات الدولة. التحقيق بهكذا جريمة يحتاج إلى تقنيات علمية معقّدة قد تسهل الوصول إلى الحقيقة بالإضافة إلى التحقيق الجنائي.
ولمجرد سقوط ضحايا أجانب لا سيما الفرنسيون منهم، فهناك تحقيق أو تدخل في التحقيق من بلدانهم حدًا أدنى. الانفجار وتبعاته غير المسبوقة تستدعي التعاون مع كل الجهات الدولية التي يمكن أن تساعد على جلاء الحقيقة.
وسيتوقف على ذلك مسؤوليات شركات التأمين كي تُلزم بسداد متوجباتها وتعويض المتضررين. أي تشكيك في التحقيق وفي التقرير الرسمي النهائي قد يتيح لشركات اعادة التأمين الأجنبية التملًص من سداد بوالص التأمين وهي بمئات الملايين. وتحميل الأعباء لشركات التأمين المحلية.
وليس معلومًا بعد ما اذا كانت البوالص تلحظ الاستثناءات التقليدية غير المشمولة بالتأمين في حالات محدذدة مثل الاشعاعات، والأضرار البيولوجية وسواها. الأمر الذي يشمل أيضًا بوالص التأمين على الحياة والجرحى والمنازل.
وكلها تستند إلى واقع التفجير وظروفه التي يفترض أن يلحظها التقرير النهائي. واشراك جهات دولية في التحقيق يلزم شركات اعادة التامين الأجنبية سداد متوجباتها وتعويض المتضررين، وقت تعجز الهيئة العليا للإغاثة والدولة عن تلك الأعباء.
ما علاقة السيادة بكل ذلك؟ النظام حطّم الدولة بمفهومها المؤسسي، أرضًا وشعبًا ومؤسسات. حتى اذا دفعت الأزمة بالمواطن إلى اليأس وفقدان الثقة بالسلطة وبمؤسساتها الدستورية، تجاوزت الأزمة الدولة والنظام السياسي إلى الوطن وأركانه.
وما نزال في حالة انكار سخيفة، وعنتريات تستحضر السيادة في غير مكانها وتتنازل عنها من المنبع. دولة مكتملة الأركان، ومؤسسات عاملة على كل الأراضي اللبنانية، وحصر السلاح واستخدامه بالجيش اللبناني وقوى الأمن الشرعية. أمّا الدفاع عن لبنان في وجه العدو الصهيوني فمهمّة كل اللبنانيين ومؤسسات الدولة لا تتبدّى عليها أي اعتبارات.
الإعمار بعد التغيير
واضح من بيان المؤتمر الختامي أن المشاركين فيه تركوا مهمة اعمار البنى التحتية والدعم المالي لتعهدات سيدر. ومفتاحها المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. لكن المساعدات الانسانية نفسها من خارج المؤسسات الحكومية قد تواجه عراقيل سياسية محلية. تنسيق المساعدات من خلال آلية الأمم المتحدة يحتاج إلى عمل دؤوب من السلطات الحكومية والمؤسسات الرسمية،
في صرف الاعتبار استقالت هذه الحكومة ودخلت مرحلة تصريف الأعمال، أم أكملت بمن بقي. وكالات الأمم المتحدة بالتعاون مع المنظمات الشبابية والطلابية ولجان المتضررين أنفسهم يمكن أن تقوم بتلقي المساعدات.
رئيس الحكومة حسّان دياب مصرّ على البقاء لاستكمال “الإنجازات” متجاهلًا الاستقالات الوزارية.
ونسي إن تركته كانت أسوأ بكثير من تركة سعد الحريري. أمّا مجلس النوّاب الذي دعا رئيسه نبيه برّي إلى جلسة الخميس المقبل لمساءلة الحكومة، فلم يبق منه يعمل إلّا شرطة المجلس لقمع الشعب و”الأمة جمعاء“.
الدول التي شاركت في المؤتمر أمس، لم تسقط احتمال استقالة الحكومة قبل نهاية وصول المساعدات إلى لبنان. وبدأت تتحسّب لانتخابات نيابية مبكرة يعقبها استقالة رئيس الجمهورية لاعادة تشكيل السلطة والنظام معًا سياسيًا واقتصاديًا.
الحرية بكل مضمونها ستنتصر. مع عدالة اجتماعية وسلطة دستور وقانون وقضاء مستقلّ. الفساد سيسقط وزبائنيتكم. يحق لكم أن تجزعوا..
المصدر: المدن