ما إن أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن زيارته لبنان إثر انفجار مرفأ بيروت، حتّى ارتفع منسوب النرجسيّة الحكوميّة “ها هو رئيس دولة كبرى لها وزنها على الساحة الدولية، يزورنا ليكسر عزلتنا الدولية”.
ظنّت الحكومة ورعاتها أنّ الزيارة ستصب لصالحها، مهما رافقها من كلام مكرّر حول وجوب تنفيذ الإصلاحات، بحيث تحصل الزيارة في توقيت حرج، تتعاظم معه حاجة الحكومة لغطاء دولي، وعلى وقع دمار كبير، وبالنهاية رئيس فرنسا يلتقي الرؤساء الثلاثة، وملزم بالتعامل معهم في تنظيم تلقّي المساعدات الفرنسية، وفي ذلك إعتراف بدورهم. ولكن ما لم تكن السلطة الحاكمة تتوقّعه هو أن يسلك ماكرون في طريقه إلى بعبدا، أزقّة الجميزة المنكوبة، ليسقِط هناك في شارع غورو ما تبقّى من شرعيتهم بين الأنقاض وفتات الزجاج المحطّم.
يكفي فقط الإستماع إلى طلب تلك السيدة وإلى جوابه، لتدرك السلطة حجم الدمار الذي لحق بصورتها في صفوف المجتمع الدولي، دمارٌ يشبه ما خلّفه إهمالهم من خلال صور بيروت المنكوبة “سيدي الرئيس لا تعطوا المال للحكومة”..
“لا تقلقي بهذا الشأن”. علمًا أنّ الرؤساء لم يكلّفوا أنفسهم عناء معاينة بيروت المنكوبة والإصغاء إلى وجع أهلها كما فعل ماكرون، ربّما إهمالًا منهم أو إدراكًا لسوداوية الإستقبال.
مضبطة اتهام وجّهها ماكرون إلى كلّ المسؤولين بالفساد والإهمال، لاسيّما التنفيذييّن منهم، وبعدم الثقة بهم في إيصال المساعدات الإنسانية إلى المنكوبين، هذا ما أكّد عليه خلال حديثه مع الناس في الشارع، وخلال تصريحاته العلنية “لست هنا لدعم النظام ولا الحكومة، بل لمساعدة الشعب والوقوف الى جانبه، ومدّه بالمساعدات من دواء وغذاء، لا تقلقوا لن نضع المساعدات في أيدي الفساد، بل سنرسلها إليكم عبر المؤسّسات غير الحكومية”. وهو ما أكّد عليه أيضًا في مؤتمره الصحافي الختامي عندما تحدث عن نيته تنظيم مؤتمر دولي لحشد الدعم “سنؤسّس حوكمة شفافة وواضحة، لكي تكون هذه المساعدة الفرنسية والدولية موجّهة مباشرة الى المجتمعات والمنظمات غير الحكومية، وكل الفرق التي تعمل على الارض، بشفافية تامة”.
ولكن الأبعد من ذلك، أنّ عدم الثقة الفرنسية ومن خلفها الدولية بالسلطة الحاكمة لا يقتصر على الخوف من “سرقة المساعدات”، بل تعدّاه إلى عدم الثقة بالتحقيق اللبناني لكشف ملابسات الإنفجار الغامض، وتجّلى ذلك بتأكيد ماكرون على وجوب “إجراء تحقيق دولي مفتوح وشفاف، لتجنب تخبئة أيّ شيء، ولمنع وجود أيّ شكّ”،
وبالفعل هذا ما بدأه ماكرون باصطحاب وفد فرنسي فنّي تقني لمعاينة مسرح الجريمة، خصوصًا وأنّ هناك ضحايا فرنسيين سقطوا في الإنفجار. علمّا أنّ عددّا كبيرًا من القوى السياسية اللبنانية طالب بلجنة تحقيق دولية بسبب الثقة المفقودة. علمًا أنّ لجنة التحقيق الدولية تتألف إمّا بطلب رسمي لبناني وهذا مستبعد، أو بقرار صادر عن مجلس الامن الدولي الذي ينعقد الإثنين للبحث في إنفجار بيروت.
ولكي لا تأمل الحكومة بإمكان أن يتيح لها إنفجار المرفأ القفز فوق شروط تنفيذ الإصلاحات، كان تأكيد ماكرون على تلبية ما يتعلّق فقط بالشق الانساني، لكن إعادة الاعمار والحصول على دعم مالي سيبقى منوطًا بمفتاح صندوق النقد الدولي، ومدخله الإصلاح.
ماكرون جمع في قصر الصنوبر ما فشل الرئيس ميشال عون في جمعه في قصر بعبدا، وعلى مسامعهم قالها صراحة “عندما تتكلّمون عن إستراتجيات ومسائل معقدة ترتبط بالخارج، فإنّكم سوف تحتاجون إلى وقت طويل،
فافعلوا اليوم ما تستطيعون القيام به من إصلاحات وتأمين كهرباء، حققوا أحلام شعبكم أولا، نفّذوا المشاريع القريبة الأجل “.
وبدا لافتًا موقفه من كتلة الوفاء للمقاومة، وتجنّب الحديث عن سلاح الحزب ودوره الإقليمي الذي أوصل لبنان إلى ما هو عليه وعزله عن العالمين العربي والدولي وفق أسئلة الصحافيين، فرغم تأكيده على مبدأ النأي بالنفس، أشار إلى وجود الحزب في الحياة السياسية اللبنانية “هناك أحزاب لست أنا من إختارها و وضعتها في برلمانكم إنّها خياراتكم”.
صراحته مع السياسيين كانت مماثلة خلال لقائه وفدًا من المجتمع المدني، الذين فشلوا في إحداث تغيير في المشهد البرلماني.
حوالي ثلاثة أسابيع منح الزائر الفرنسي أهل الحل والربط في لبنان، لتغييرحقيقي في النهج وإعادة تأسيس ميثاق جديد، وعند عودته في أيلول في ذكرى مئوية لبنان الكبير سيكون له كلام آخر، فيما لو بقي هؤلاء على حالة الإنكار.