قبل أن يغرق المركب بمن فيه، مسؤولين وسياسيين وشعبًا، قفز الوزير ناصيف حتّي، الذي قدّم إستقالته من “حكومة لا رؤية لديها”، فقبلها رئيس الحكومة حسّان دياب على الفور وكأنه كان ينتظرها منذ وقت طويل، علمًا أن إستقالة مدير عام في الدولة لم ُتقبل إستقالته حتى اللحظة، مما يؤشّر إلى أن دياب مستعدّ للتخلي عن الجميع شرط أن يبقى متربعًا على الكرسي الثالث حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. ويبدو أن البديل عن حتي كان جاهزًا وكأن الجميع كان يتوقع مثل هذه الإستقالة، التي لم تكن مفاجئة تبعًا لمسيرة حتي الدبلوماسية، وهو وديعة الوزير السابق جبران باسيل لدى رئيس الجمهورية، أي السفير شربل وهبي، الذي كان من بين مستشاري الرئيس عون، مع أن الوزير المستقيل كان محسوبًا على باسيل، الذي لم يكن على علم مسبق بهذه الإستقالة، على ما قالته نائبته للشؤون السياسية مي خريش.
فلماذا إستقال حتّي في هذا الوقت بالذات ولماذا طوّل باله كثيرًا قبل أن يقدم على هذه الخطوة الجريئة، مع أن البعض ربطها بإستحقاق 7 آب وما سيصدر عن المحكمة الدولية في قضية إغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولكن السبب المباشر جاء في كتاب الإستقالة المدروس بإتقان وبإتزان كلي.
ويمكن من خلال هذا الكتاب رصد بعض العناوين – الأسباب، التي دفعته إلى تقديم إستقالته بعدما طفح الكيل، وهي كالتالي:
أولًا: “أن النظام غني بالتحديات ولكنه فقير بالإرادات السديدة”، وهذا يعني أن ثمة من يكتفي بلقب”معالي” ولا يريد أن يحقق أي إنجاز، وقد تكون الأمثلة كثيرة، وقد يتم إستبدال بعض من هؤلاء الوزراء، الذين لا يريدون شيئًا آخر سوى هذا اللقب، وهم لا يجرؤون من تلقاء أنفسهم التخلي عن هذه “النعمة”، التي هبطت عليهم في غفلة من زمن.
ثانيًا: “حملت آمالاً كبيرة بالتغيير والإصلاح ( وهذا دليل إلى أنه محسوب على “التيار الوطني الحر”)، ولكن الواقع أجهض جنين الأمل في صنع بدايات واعدة من رحم النهايات الصادمة”، وهذا القول يتضمّن تفسيرًا ذاتيًا، إذ أن ما بين الشعارات الرنانة والكبيرة وبين الواقع بونًا شاسعًا، لم يتح لجنين الأمل أن ينمو ويكبر طبيعيًا.
ثالثًا: “لبنان اليوم ينزلق للتحوّل إلى دولة فاشلة لا سمح الله، وإنني أسائل نفسي كما الكثيرين كم تلكأنا في حماية هذا الوطن العزيز وفي حماية وصيانة أمنه المجتمعي”، وهذا يعني في الأدبيات السلوكية عندما يشمل المخاطب نفسه بالتساوي مع الآخرين أن الجميع من دون إستثناء، من أعلى الهرم حتى أسفله متلكىء عن القيام بواجباته الوطنية.
رابعًا: “في غياب إرادة فاعلة في تحقيق الإصلاح الهيكلي الشامل المطلوب الذي يطالب به مجتمعنا الوطني ويدعونا المجتمع الدولي للقيام به”، متمنيًا على إدارة الدولة “إعادة النظر في العديد من السياسات والممارسات من أجل إيلاء المواطن والوطن الاولوية على كافة الاعتبارات والتباينات والانقسامات والخصوصيات”، وهذا يعني أن الإدارة الحالية تنتهج سياسات خاطئة، خصوصًا أن الشاهد هو من أهل البيت وليس واحدًا من الذين “يحيكون المؤامرات” ضد الحكومة أو واحدًا من أركان المعارضة، “الذين لا همّ لهم سوى إسقاط حكومة الفاشلين”.
خامسًا: “المطلوب في عملية بناء الدولة عقولاً خلاقة ورؤيا واضحة ونوايا صادقة وثقافة مؤسسات وسيادة دولة القانون والمساءلة والشفافية”، الأمر الذي يقودنا إلى خلاصات مفادها أن ليس في الدولة كلها عقولًا خلاقة ولا رؤية واضحة لديهم، وهذا أكبر دليل إلى أن هذه الحكومة، التي تتصرّف وكأنها باقية ما بقي الزمن، لا تعير أهمية لسيادة دولة القانون ولا للمساءلة ولا للشفافية، وهي صفات لا يتمتع بها إلا رجال الدولة غير الموجودين، كما جاء على لسان حتي.
سادسًا: “لقد شاركت في هذه الحكومة من منطلق العمل عند ربّ عمل واحد إسمه لبنان، فوجدت في بلدي أرباب عمل ومصالح متناقضة، إن لم يجتمعوا حول مصلحة الشعب اللبناني وإنقاذه، فإن المركب لا سمح الله سيغرق بالجميع”، وهنا بيت القصيد وخلاصة الخلاصات، حيث إكتشف حتي أن فوق رأسه أرباب عمل كثر، سواء في ميرنا الشالوحي أو حارة حريك، فضلًا عن التناقضات القائمة بين القصر الجمهوري والسراي الحكومي بالنسبة إلى سياسة لبنان الخارجية.