عندما طرحت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي شعار النأي بالنفس، كنهج لمسار سياسي بالغ الأهمية إنقسم يومها اللبنانيون فريقين، الأول مؤيد لهذا الطرح المتقدم وطنيًا، والثاني معارض، تمامًا كما يحصل اليوم مع دعوة البطريرك الراعي إلى إعتماد الحياد الإيجابي.
فالنأي بالنفس عن مشاكل المنطقة لا يعني بالضرورة ألا يكون لبنان مهتمًا بما يجري حوله، ولكنه يعني حتمًا ألا يكون طرفًا في النزاعات الحاصلة في الإقليم، وهذا ما دفع الكثيرين من اللبنانيين إلى تبني هذا الطرح،
الذي يجنّب لبنان الكثير من المشاكل، التي هو في غنىً عنها، وذلك نظرًا إلى ما يمكن أن يؤدي إنخراطه في النزاعات الإقليمية من تداعيات وإنعكاسات سلبية على وحدته الداخلية، وذلك إستنادًا إلى تجارب سابقة أثبتت أهمية إختيار لبنان في عهد الإستقلال شعار “لا للغرب ولا للشرق”،
الأمر الذي إنعكس إيجابًا على علاقات لبنان بأشقائه العرب وأصدقائه من الدول الغربية.
ولأن للبنان علاقات جيدة مع الجميع تمّ إختيار سياسة النأي بالنفس،
وذلك إستباقًا لما يمكن أن يحدث مستقبلًا على أرض الواقع، وهو ما حصل بالتأكيد عندما إنخرط “حزب الله” في الحرب السورية بحجة الدفاع عن المقامات الدينية في بادىء الأمر ليتطور لاحقًا إلى الدفاع عن النظام السوري، وقد حقق في ذلك إنتصارات واضحة أدّت إلى تغيير بعض المعادلات وأدخلته بالمباشر في العملية الإقليمية من خلال فرض شروطه التفاوضية على طاولة المساومات الدولية،
على رغم ما جرّه هذا التدخل من إستجلاب الضغوطات الدولية عمومًا والأميركية خصوصًا على لبنان إعتقادًا من الإدارة الأميركية بأن ممارسة هذا الضغط على لبنان سيؤدي حتمًا إلى الضغط على “حزب الله” من قبل اللبنانيين بهدف تراجعه عن مخططاته، بعدما دخل طرفًا رئيسيًا في لعبة “العضّ على الصابع”، وبات رقمًا صعبًا في المعادلة الأقليمية، وفي الحرب المحتملة مع العدو الإسرائيلي، الذي لا يتوانى عن تهديد لبنان، من شماله إلى جنوبه، وتحويل مرافقه الحيوية إلى هدف محتمل في أي حرب مقبلة.
فلو إلتزم الجميع سياسة النأي بالنفس في حينه لما كان لبنان يواجه اليوم ما يواجهه من تحدّيات تتمثّل في إحجام الدول الشقيقة والصديقة عن مدّ يد المساعدة له، وهو في أمسّ الحاجة إلى كل مساعدة ممكنة لكي يستطيع النهوض من كبوته الإقتصادية.
ومن هنا إنطلقت مبادرة البطريرك الراعي في هذا التوقيت بالذات، الذي يرى فيه بعض الذين يعارضون هذا الطرح، ومن بينهم “حزب الله”، إستهدافًا لهم، فيما يرى آخرون مؤيدون له أنه توقيت سليم يأتي قبيل تفلت الأمور من عقالها ودخول لبنان في فوضى الخيارات الصعبة، التي لا بدّ منها في النهاية، وهذا ما يحرج البعض ويدفعهم إلى خيارات متطرفة قد لا تحمد عقباها في نهاية الأمر.