لم يعتد اللّبنانيّون على متابعة حركة الأسواق الماليّة المحليّة لاسيّما التغيّرات في سعر صرف العملة الوطنيّة، وذلك بسبب سياسة تثبيتها لنحو ٣٠ عاماً، الأمر الذّي تسبّب بشلل القطاعات الإنتاجيّة وبناء نموذج إقتصادي ريعي يعتمد بشكل رئيسي على الإستيراد.
إلّا أنّه مؤخّراً أصبحت متابعة تحرّكات سعر الصّرف عادة يوميّة يعتمدها اللّبنانيون نظراً لمدى تأثيرها على قدرتهم الشّرائيّة الّتي باتت تتدهور يوماً بعد يوم في ظلّ غياب الإصلاح الإقتصادي البنيويّ والشّامل.
ففي الأسابيع الماضية، سجّل سعر صرف الدّولار أعلى مستوياته تاريخيّاً ليلامس عتبة ال10000 ل.ل للدّولار الواحد في السّوق السّوداء. إلّا أنّه، وبالرّغم من التوقّعات المتشائمة، عاد الى الانخفاض النّسبي ليتراوح مؤخراً بين 6500 و8500 ل.ل.
هذا الانخفاض شكّل العديد من التّساؤلات لدى المواطنين: فمنهم من حاول حماية قدرته الشرائية، فاشترى دولاراً بأسعارٍ عالية ظنّاً منه أن السّعر سيستمرّ بالإرتفاع كما هو متوقّع، وارتاب عند رؤية مستوياتٍ أدنى في الآونة الأخيرة.
ومنهم من اطمئنّ، ظنّاً منه أن السياسات المتّبعة من قبل الحكومة ومصرف لبنان باتت تجدي نفعاً وأنّ سعر الصرف بدأ مساره الإنخفاضي العام. ومنهم من يزال في موقعٍ وسطيّ ما بين توقّعات التحسّن أو الانهيار الشامل المرتقب. فأين تكمن الحقيقة؟
في الواقع، إذا نظرنا في الرسم البياني لأسعار العملات والأصول بشكلٍ عام نستنتج نوعين من التحرّكات: المسار العام (General Trend) والمسارات التّصحيحيّة (Counter Trends / Corrections).
يعرض المسار العام إتّجاه الأسعار على المدى الطّويل، وهو مرتبط بشكل رئيسي بالمعايير العلميّة الأساسيّة (Fundamentals) والّتي تعكس الصّورة العامّة للإقتصاد الكلّي (Global Macro Analysis).
فإذا كان الإقتصاد المحلّي سليماً بشكل عام، أي أنّ معدّلات النّموّ الإقتصادي ترتفع تدريجيّاً نظراً لتدفّق الإستثمارات وانخفاض معدّلات البطالة، تحصل العملة الوطنيّة على ثقة المواطنين ممّا يؤمّن استقرارها وثباتها أو حتّى تحسّن مستوياتها على المدى الطّويل.
أمّا المسارات التّصحيحيّة، فتشكّل مجموعة من التصحيحات القصيرة الأمد ضمن المسار العام الطّويل والّتي تكون معاكسة له، وغالباً ما ترتبط هذه التصحيحات بالعوامل النفسيّة والسّلوكيّة للأسواق (Behavioral Finance). فعلى الرّغم من الصّورة العامّة للإقتصاد الّتي تظهر نتائجها على المسار العام للعملة، قد تكون هناك تحرّكات معاكسة للمسار العام تنتج عن حجم التّداول اليومي ونسبة العرض والطّلب الّتي تتأثّر بالعوامل النّفسيّة للمتداولين، والمرتبطة عامّةً بالأخبار الآنيّة والمؤشّرات الإقتصاديّة على المدى القصير.
إلّا أنّ هذه التّصحيحات، لا تلغي المسار العام لتحرّكات سعر الصّرف، بل تبقى معاكسة له بنسب متدنيّة، ولا شيء يُبدّل المسار العام إلّا التّغيّرات الجذريّة في النّموذج الإقتصادي أو الإنتقال من مرحلة إلى أخرى ضمن الدّورة الإقتصاديّة (Shifts in Economic Cycles).
إذا نظرنا في واقع الإقتصاد اللّبناني، نجد أنّ المسار العام للدّولار مقابل اللّيرة اللّبنانيّة (الخطّ الأحمر في الرسم البياني) يشهد إتّجاهاً تصاعديّاً منذ منتصف العام ٢٠١٩، أيّ أنّ اللّيرة اللّبنانيّة تشهد المزيد من الإنهيار وذلك بسبب الوضع الإقتصادي العام المتمثّل بنقص الثّقة وغياب المشاريع الإصلاحيّة ضمن خطّة اقتصاديّة بنيويّة متاكملة تساهم في دعم الإستثمارات، تطوير البنى التّحتيّة، والإنتقال إلى نموذج إقتصادي منتج.
ومع استمرار العجز في ميزان المدفوعات، يبقى من الصّعب أن نشهد تغيّراً جذريّاً في هذا المسار، خاصّةً مع تقلّص حجم الإحتياط الإلزامي إلى مستوياتٍ حرجة نسبيّاً وفي ظلّ انقطاع حجم التّحويلات الأجنبيّة.
أضف إلى ذلك السّياسات النّقديّة المُتّبعة من مصرف لبنان، والّتي تعتمد على طباعة اللّيرة لتمويل الخسائر والنّفقات العامّة، والإجراءات الّتي تشمل دفع الودائع والتّحويلات باللّيرة اللّبنانيّة حصراً على السّعر المُحدّد عن طريق المنصّة الإلكترونيّة المُنشأة والّتي لا تعكس سعر التّوازن بين العرض والطّلب في السّوق.
هذه العوامل كُلُّها تؤكّد أنّ لبنان لم يَخْطُ حتّى الآن، أي خطوة جديّة نحو تبديل النّموذج الإقتصادي وجذب الإستثمارات، الأمر الّذي يقف عائقاً أساسيّاً أمام المفاوضات مع صندوق النّقد الدّولي للحصول على التّمويل. وبالتّالي، كل ما ابتعد التّوجّه الحكومي عن هذا الأمر، كلّما أصبح ضبط المسار التّصاعدي للدّولار أصعب، وكلّما أصبحت العودة المستقبليّة إلى مستوياتٍ متدنيّة شبه مستحيلة.
لكنّ إذا كان المطروح أعلاه واقعيّاً، فكيف يُفَسَّر هبوط سعر صرف الدّولار في الفترة الأخيرة؟ بما أنّ الصّورة العامّة للإقتصاد المحلّي لم تتبدّل، أو حتّى لم تشهد أي تغيُّرٍ جذريِّ يُبشّر بالإنتقال إلى نموذجٍ مُنتِج، لا يُمكن حتّى الآن أن نؤكّد انتهاء المسار العام التّصاعدي للدّولار، وبالتّالي فإنّ تدنّي مستوياته في الآونة الأخيرة ليست إلّا نوعاً من المسارات التّصحيحيّة (الخطوط الخضراء في الرّسم البياني). وهذه ليست المرّة الأولى الّتي يصحّح فيها الدّولار مساره التّصاعديّ. فعند وصوله إلى مستوى ال5000 ل.ل. للمرّة الأولى،
شهد في الأيّام التّالية انخفاضاً وصل إلى مستوى يقارب ال 3800 ل.ل قبل أن يُكمل مساره التّصاعدّي العام، وذلك لأنّ الوضع الإقتصادي لا يزال في مراحل دقيقة تغيب عنها الثّقة بالسّياسات القائمة. فهذه التّصحيحات في سعر الصّرف غالباً ما تعود للعوامل النّفسيّة والسّلوكيّة للأسواق نتيجة تطوّراتٍ قَد يُصَنِّفها السّوق إيجابيّة على المدى القصير فقط، فَتُؤثِّر في حركة العرض والطّلب بشكلِ مُعاكس للمسار العام. ومن أبرز هذه العوامل الّتي شهدناها مؤخّرأ:
– وصول الدّولار إلى مستوياتٍ قياسيّة تاريخيّاً، حيث لامس 10000 ل.ل للدّولار الواحد. ويُعتبر هذا المستوى هدفاً أساسيّأً يُسمّى ب Psychological Level ممّا يخلق تبدُّلاً في سلوك المتداولين نتيجة التّخوّف من الوصول إلى مستوى جديدٍ للمرّة الأولى، والّذي يطرح علامات استفهام حول استمرار هذا المسار. لذلك، لجأ بعض المواطنين إلى بيع بعضاً من مُدّخراتهم بالدّولار، ت
خوّفاً من عدم استكمال المسار التّصاعدي، خصوصاً وأنّ الأخير تزامن مع بعض الأحداث الّتي قد يعتبرها السّوق إيجابيّة إلى حدِّ ما، كإعادة فتح المطار ودعم الدّولة بالتّعاون مع مصرف لبنان لمجموعة من السّلع الغذائيّة.
– صغر حجم السّوق السّوداء، الّذي يسمح لبعض المضاربين، أصحاب رؤوس الأموال، بالتّحكّم في الأسعار. ففي أسواق العملات، ينقسم المتداولون إلى نوعَيْن: التجّار الّذين يتداولون العملات لغاياتٍ مهنيّة أبرزها استيراد السّلع والمواد الأوّليّة والمضاربين (Speculators) الّذين يتدخّلون في أسواق العملات بهدف تحقيق الأرباح من تغيّرات سعر الصّرف.
وفي ظلّ المباشرة في سياسات دعم استيراد السّلع الأساسيّة والّتي استطاع قسمٌ كبير من التّجّار الإستفادة منها، أصبحت قدرة المضاربين أكبر في التّأثير على سعر الصّرف في السّوق السّوداء. فبعد الإرتفاع القياسي الذّي سجّله الدّولار جرّاء ازدياد الطّلب في الفترة الأخيرة،
حان الوقت لجني الأرباح، خصوصاً بعد وصوله إلى مستوياتٍ تاريخيّة تزامنت أيضاً مع سلسلة من الإجراءات الحكوميّة المتفائلة، شكّلت حافزاً لدى المضاربين لبيع الدّولار وجني الأرباح، ممّا دفعه إلى تلك المستويات المتدنيّة مؤخّراً.
– إعادة فتح المطار الّتي شكَّلَت حالة من الطّمأنينة في الأسواق وذلك بسبب إمكانيّة إدخال الوافدين للعملات الأجنبيّة، ممّا يساهم بزيادة المعروض من الدّولار وبالتّالي تحسّن مستوياته نسبيّاً.
– سياسة دعم سلّة من السّلع الإستهلاكيّة الأساسيّة، الّتي من شأنها أن تساهم في خفض الأسعار، ممّا قد يؤدّي إلى خفض الطّلب نسبيّأ على دولار السّوق السّوداء من قبل التّجّار والمواطنين.
ولكن رغم هذه التّطوّرات الأخيرة، هل بادرت السّلطات المعنيّة لاتّخاذ الإجراءات الكافية والمطلوبة؟ إنّ إجراءات إعادة فتح المطار والمباشرة بسياسة الدّعم ليست إلّا حلولاً موقّتة لا يمكن اعتبارها أساساً في تحسّن الأوضاع. فحتّى اليوم، لا يزال القيّمون على السّياسات الإقتصاديّة منشغلين بوضع السّياسات الظّرفيّة الّتي مفادها شراء المزيد من الوقت. وقد اختبرنا مدى فعّاليّة هذه السّياسات الّتي أودت بإنهيار الإقتصاد لأنّها لم تتزامن مع إصلاحات بنيويّة في القطاعات الإنتاجيّة. فسياسة دعم السّلع الإستهلاكيّة الأساسيّة هي احدى السّياسات الظّرفية المكلفة لتهدئة الأوضاع، خصوصاً في ظلّ انخفاض التّحويلات الأجنبيّة وغيابٍ تام للثّقة الّذي يحجب الإستثمارات الأجنبيّة عن البلاد. وبالتّالي،
فإنّ حجم الإحتياط المصرفي من العملات الصّعبة، والّذي وصل إلى مستوياتٍ حرجة مؤخّراً، يُستخدم لتمويل هذه السّياسة فيما تُدفع الودائع باللّيرة اللّبنانيّة. فإلى متى ستبقى الدّولة قادرة على استخدام ما تبقّى من الإحتياط لتمويل هذا الدّعم؟
لذلك إذا تأمّلنا بالوضع العام، نجد أننا لا نزال نُفرط في استخدام احتياط العملات الصّعبة من أجل تمويل العجز في الميزان التّجاري في حين تُمَوّل الخسائر الدّاخليّة والنّفقات العامّة من خلال طباعة المزيد من اللّيرة اللّبنانيّة. فإن لم تتزامن هذه السّياسات الظّرفيّة مع برنامج إصلاحي بنيويّ يعتمد على تطوير القطاعات الإنتاجيّة وتأمين البنية التّحتيّة اللّازمة لجذب الإستثمار والحصول على موافقة صندوق النّقد الدّولي،
فلن يتمكّن لبنان من تحقيق النّهوض الإقتصادي على المدى القريب والمتوسّط. وبما أنّ السّياسات القائمة مفادها شراء الوقت فقط، فلا يمكن أن نعتبر أنّ أزمة الدّولار قد انتهت، خاصّةً وأنّه قد اختبرنا نتيجة هذه السّياسات عندما لا تفلح الدّولة بإيجاد حلول بنيويّة،
والتّي قد تُوقعنا في المزيد من الخسائر أصبح لبنان بغنى عنها.
ختاماً، إنّ الواقع الإقتصادي اللّبناني يمرّ بمرحلة دقيقة جدّاً يمكن أنّ تؤدّي إلى تفاقم الأزمة اذا لم يتركّز العمل الحكوميّ على المفاوضات مع صندوق النّقد الدّولي والّتي تعتبر أوّل خطوة جديّة من مسيرةٍ طويلة الأمد نحو النّهوض الإقتصادي. فكل مؤشّرٍ أو قرارٍ بعيد عن هذا المنطق، ليس إلّا وسيلةً لشراء الوقت، قد تنعكس إيجاباً لفترة قصيرة على سعر صرف الدّولار (مساراً تصحيحيّاً)،
إلّا أنّها من الصّعب أن تتمكّن من إلغاء أو تغيير مساره العام التّصاعديّ، وبالتّالي ستشهد العملة الوطنيّة المزيد من الإنهيار المرتقب. أمّا للتّخفيف من سرعة وحدّة ارتفاعه،
فالإجراء السّريع والصّائب الّذي يجب اتّخاذه هو إلغاء التّعاميم الأخيرة لمصرف لبنان الّتي تهدف إلى تمويل الخسائر والودائع باللّيرة اللّبنانيّة، ممّا يساهم في الحدّ من تفاقم حجم العرض من العملة الوطنيّة مقابل الدّولار.
إلّا أنّ الحلّ النّهائي للأزمة النّقديّة على المدى الطّويل يبقى مرتبطاً بالسّياسات الإصلاحيّة والّتي تتركّز على توجيه الإستثمارات وتطوير البنى التّحتيّة، وهذه السّياسات، وفي حال تطبيقها اليوم، تستغرق وقتاً لإظهار نتائجها الإيجابيّة.
المصدر: جاد يمّين – vdlnews