يروي مواطن أنه تلقى اتصالاً من مصرفه قبل أيام، يطالبه بتغطية حسابه “المكشوف” بالدولار، بعدما كان قد سدد منه مبلغ ألف دولار كفاتورة إستشفاء.
لم يقبل المصرف قيمة المبلغ بالليرة اللبنانية، فحمل معه الشاب ألف دولار نقداً، وتوجه إلى المصرف. وكانت المفاجأة – الجرصة: أخذ موظفو المصرف يتناتشونه، من أصغرهم إلى المديرة، ليحاول كل منهم القبض على الألف من الدولارات، في مقابل تحويل مبلغ أكبر منه من حساباتهم المصرفية إلى حسابه. ولم تنته عملية “المبارزة” حتى بعد أن استقرت الصفقة على أحدهم، ففاز بالألف دولار نقداً، وحول له من حسابه مبلغ ألف ومئتي دولار.
ما جرى في المصرف، ليس سوى عينة عن أداء انحداري يومي، في المصارف وإداراتها، المتخبطة بتعاميم باتت شبه يومية، وتصدر عن حاكمية مصرف لبنان، لتمعن برَهن الناس وودائعهم إلى الصرافين وسوقهم السوداء.
فالدولار يغيب في المصارف، ولكنه يتوفر لدى الصرافين.. وبعدما بات مصرف لبنان ممسكاً بسعر الصرف، صار بدوره خاضعاً لتسعيرة الصرافين. وما تعاميمه التي يحاول بها حماية “مخزونه الإحتياطي”، سوى مزيد من التسليم بهيمنة سوق سوداء، تتفاقم إغراءاتها يومياً لجذب دولارات المواطنين، فيسهم الكل في مفاقمة عجز المواطنين وتراجع قدرتهم.
أحد هذه الأسواق التي صارت مؤشرا للحالة النقدية الانحدارية التي وصل إليها لبنان، هي تجمع صرّافي شتورا. فإلى هذا التجمع تتوجه أصابع الاتهام بتهريب كميات من الدولار إلى سوريا، في محاولة للتخفيف من العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظامها. وإلى أصحاب مؤسسات الصيرفة تُحمّل أيضاً مسؤولية “تموين” حزب الله بكميات من الدولارات من خارج النظام المصرفي، الخاضع لأحكام أميركية تجمِّد حسابات حزب الله وكل المتورطين بتمويله.
نشأ تجمع صرّافي شتورا في سنة 1975. قبل هذا التاريخ – يروي قاسم شمس وهو من أصحاب أكبر مؤسسات الصيرفة في ساحة شتورا – أن حركة تبادل العملات كانت مقتصرة على المصارف، فيما كان هناك صرّاف واحد في زحلة، يقصده الزوار من مختلف المناطق لتبديل عملاتهم. وبقي علي شمس، المبادر إلى إنشاء مؤسسة شمس في شتورا، الصرّاف الوحيد في الساحة لفترة، حتى صار وأشقاؤه أكبر الصرّافين في المنطقة، ومؤسستهم هي الوحيدة المصنفة فئة أولى في الساحة.
ازدهر تجمع الصرّافين في شتورا في مرحلة الوجود السوري في لبنان، وعرف فورة من الصرّافين المتجولين، الذين باتت لبعضهم مؤسسات لاحقاً، بسبب موقع الساحة الاستراتيجي للوافدين براً من سوريا والدول العربية ومن الخليج إلى لبنان والعاصمة بيروت. بعض المستثمرين بالقطاع قونن وضعه، ونال التراخيص اللازمة. وآخرون بقوا يعملون تحت غطاء تقديم خدمات أخرى لفترة طويلة، قبل أن يغلق جهاز أمن الدولة بقرار قضائي كل المؤسسات غير المرخصة مؤخراً.
ومرّ تجمع الصرّافين بشتورا في مراحل متفاوتة، وبقيت حركته الظاهرة لفترة طويلة تقتصر على تبديل العملات العربية، ولا سيما السورية، وتحويلها عملة لبنانية، أو العكس. وفي ظل استقرار سعر صرف الدولار، بقيت أرباح تداولاته محدودة، حتى في عز أزمة التسعينيات، والارتفاعات القياسية حينها لأسعار الدولار.
وعندما بدأت الخزانة الأميركية بالتضييق المالي على حزب الله، برز في منتصف سنة 2019 اسم قاسم شمس وشركة شمس للصيرفة، واللذين اتهمتهما وزارة الخزانة الأميركية “بالضلوع في شبكة عالمية لتبييض الدولارات، وبتحويلات مالية لمصلحة حزب الله”. وهي اتهامات يستمر قاسم شمس، في دردشة مع “المدن”، بنفيها ونفي أي علاقة له بحزب الله.
عملياً لم تحدّ اتهامات الخزانة الأميركية من نشاط مؤسسة شمس في ساحة شتورا، ولا أي من عملائها وزبائنها المعتادين. وفيما تبدو حركة مؤسسات الصيرفة المصنفة فئة ثانية وثالثة في تراجع، بسبب إحجام المواطنين عن بيع دولاراتهم، تبدو مؤسسة شمس محور الحركة في هذه الساحة، حتى أن الكثير من المؤسسات الأخرى صار ملزماً التعامل معها، بسبب حصر دولار البنك المركزي بمؤسسة شمس الدين “المصنفة فئة أولى” من دون سواها من محلات الصيرفة القائمة في هذه المنطقة.
بين الهواتف التي لا يتوقف رنينها، وزحمة التجار والأفراد، الذين يحاولون انتزاع ولو حفنة من الدولارات، يعتبر قاسم شمس أن اتهامه بالتسبب بارتفاع سعر الدولار، مردودة إلى مصرف لبنان، الذي يرى أنه بدلاً من ضخه الدولارات للصرّافين، كان يفترض أن يسمح للمواطنين بالوصول إلى ودائعهم بسهولة. ولو فعل ذلك لما رأينا هذا التهافت من الناس على الدولار، وبأي سعر ممكن.
يشرح شمس لـ “المدن” أن الصرّافين عملياً لا يمكن أن يتخلوا عن رساميلهم، وبالتالي تداولاتهم هي “مبالغ طازجة” fresh money، “يتصيدونها” يومياً من خلال تداولاتهم. وبما أن العرض أقل بكثير من الطلب، من الطبيعي أن يلجأ مالك الدولار إلى رفع سعره، ويعتبره شاريه في المقابل ربحاً، حتى لو كان بأعلى الأسعار. وينفي شمس الدين أن تكون الدولارات تباع إلى سوريا، مشيراً إلى أن سوريا ونشاط تهريب مادتي القمح والمازوت إليها، يغذي السوق اللبنانية بالدولارات ولا يسحبها منها.
ولكن الظاهر في العلن ليس الصورة الحقيقية في هذه الساحة. صحيح أن مؤسسات الصيرفة تدعي أنها لا تبيع وتشتري الدولار. لكن الواضح أن هناك “سوق ظل”، نشأ في خلفية هذه المؤسسات، أبطالها سماسرة وصرّافون شرعيون وتجار، أنشأوا مؤسسات صرافة بديلة في منازلهم وفي الزوايا، حيث يجري التداول بالدولار هناك وكأنه تجارة بالممنوعات.
تتحدث المعلومات عن توسع في “دائرة” هذه التعاملات لتشمل عمليات تبادل واسعة تجري بين المناطق، لتشكل “منظومة” تؤمن المساواة، سواء في التداولات أو بأسعار العملات، في مختلف المناطق.
هذا بالإضافة إلى دخول الصرّافين على خط التجارة بالشيكات المصرفية، كجزء من خدمة تقدم للمودعين، مقابل عمولات تصل إلى نسبة 60 بالمئة. إذ يكفي أن يحرر مودعٌ شيكاً مصرفياً برقم معين، حتى ينال نقداً نسبة أربعين بالمئة منه. فيما تذهب نسبة الـ60 بالمئة إلى حساب صرّاف أو أحد عملائه، كنوع من المقامرة، تسمح للأكثر ملاءة بالصمود لفترة أطول. فيقوم الصرّافون أو مندوبوهم بتداول هذه الشيكات مصرفياً لسد عجز هنا أو تغطية حساب مكشوف هناك، بمقابل مبالغ نقدية لبنانية تحدد بالتراضي، وفي معظم الأحيان بسعر يقارب تسعيرة السوق السوداء.
يؤكد شمس في المقابل “أن ما يجري في شتورا ولدى صرّافيها شبيه بالمناطق اللبنانية. حتى أن مثل هذه التداولات باتت تتم على مستوى الأفراد والتجار من غير الصرّافين. ولكن التركيز على هذا المكان من بين التجمعات في لبنان، لأن معظم صرّافي شتورا من البيئة الشيعية، وبالتالي هناك محاولة إيحاء بتورط حزب الله برفع سعر الدولار والتلاعب به”. وهذا ما يراه، جزءاً من حملات متكررة تشمل الحديث عن عملات مزورة أو نسخ غير معترف بها من الدولارت الآتية من العراق وغيرها التي لا تصرف خارج لبنان.
كل ذلك يجري وسط تعاميم مصرف لبنان، التي تتمادى في تسليم “رقاب” الناس إلى حفنة صرّافين، يكثرون من تداولاتهم الجانبية تحت جناح الحماية القانونية المرتقبة للمنصة الإلكترونية، ويجعلون ذلك يبدو كخدمة للمواطنين، بمقابل الغبن الذي تسببت به “بنوك المودعين” التي يفترض أن تكون ملجأهم، سواء لنيل 300 دولار تدفع مباشرة من ودائعهم، كرواتب للعاملات المنزليات، أو ألف دولار للسفر و2500 دولار كأقساط للطلاب في الخارج، و500 لأقساط المنازل. وهذه المبالغ ستحول وفقا لآخر تعميم صادر عن مصرف لبنان إلى الصرّافين، ليبيعوا الناس الدولارات، ولكن بأكثر من ضعفي السعر الرسمي الذي يتمسك به مصرف لبنان. وبعد… هل من يتساءل من هم سارقو أرزاق الناس وتعبهم؟!
المصدر: المدن