بات اسم “قيصر” أو “سيزر” على كلِ شفة ولسان، وإذا كان هناك من يخشون منه على سوريا فإن السوريين خائفون منه على لبنان “فالبلد- الأخ سيدفع الثمن أضعافاً”! كيف؟ ماذا؟ لماذا؟ فلنلتقط الأنفاس قبل أن يحين 17 حزيران بحثاً عن قطبٍ مخفية وانتظارات حقيقية أو وهمية!
“قيصر” ضابط سوري انشقّ عن النظام السوري، ونشر آلاف الصور لضحايا نظام بطش، كما يحلو له، بأهالي سوريا. وقيصر، الذي أحيطت حياته بسريّة كاملة خوفاً على حياته، أصبح اسمه قانوناً سيبصر النور بعد أيام.
فهل الحياة في سوريا مع قيصر مختلفة؟ وماذا عن لبنان وقيصر وتلازم المسارين وسيمفونية شعب واحد في دولتين؟
يرتفع هناك، في الشام، صوت “سيادة الرئيس” وهو يقول على وقع موسيقى حماسية: “سوريا أتاها غزو وإرهاب وزلازل وعقوبات وأعدنا إعمارها، وطالما نحن مع بعضنا “قدّ ما هدّموها سنعيد إعمارها”! جميلٌ هذا الكلام لكن هل سوريا مع بعضها؟ هل سوريا واحدة؟ تعليقاتٌ كثيرة من هذا النوع، يتهامس بها من يجرؤ. فسوريا، لمن لم يزرها منذ العام 2011، تبدلت أشدّ تبديل. فماذا قد يحصل بعد وبعد وبعد…؟
كثيرون من السوريين، ممن يملكون المال واللغة والعلم، هاجروا الى فرنسا أو الولايات المتحدة الأميركية، وهناك من اختار منهم تركيا ملاذاً. ومن هناك، من حيث هم،
يعملون بكل قواهم على “هندسة” مستقبل بلدهم ورفع يد البطش عنه. ضياء دغمش، ابن الشام، انتقل العام 2011 الى تركيا ولا يزال فيها وهو أحد مؤسسي المجلس الوطني. ضياء يُراقب اليوم، على مسافة مئة وعشرين ساعة تقريباً على بدء تنفيذ قرار قيصر،
تفاصيل ما يحدث في الداخل السوري ويقول: “الوضع كارثي، والنظام السوري يستمرّ في الرهان على الوقت، متجاهلاً أن رهانه خاطئ لأن الوقت ما عاد لمصلحته، وهو الذي أخذ السوريين،
منذ اليوم الأول، رهينة. إنه يحاول إظهار نفسه “المخلّص” من كيد القانون الأميركي”. من جهته مراد ح.، المقيم في فرنسا، الذي قابل خلال الأشهر الماضية الكثير من أصحاب القرار، رأيه من رأي ضياء ويعرف جيداً أن لكلّ منطقة في سوريا خصوصية تختلف عن سواها.
فالنظام ما عاد كما كان، قبل 2011، في المحافظات السورية، وبالتالي ثمة هامش حراك يكون أعلى في المناطق التي ليست خاضعة للنظام. ثمة مناطق في سوريا خاضعة لحكم الفصائل المحلية ومناطق مقربة من النظام وأخرى محايدة وغيرها معارضة.
لهذا رأينا أن هامش الحراك في السويداء أتى أكبر من سواها.
درعا، الخاضعة الى الفيلق الخامس الروسي، قادرة على التعبير والرفض والتظاهر أكثر من سواها أيضاً، علما أن النظام هدد من فيها لكنه واجه ضغوطات روسية تحت عنوان “ما بدنا أزمة”. السوريون عادوا في الأيام الماضية الى لغة التظاهر رداً على ارتفاع سعر الدولار في شكل لم يسبق أن عرفته سوريا. والنظام السوري يحاول إلصاق ما يحصل في البلاد، من ارتفاع في سعر الدولار مقابل العملة المحلية والغلاء، بقانون قيصر الذي هو، بحسب العارفين في سوريا، “بريء” من كل ما يحصل.
ما دامت الأزمة المالية في سوريا أبعد من حدود “قيصر” فإلام يردّها رجال الإقتصاد السوريون؟
الباحث الاقتصادي ومحلل مخاطر الأزمات في سوريا يونس الكريم يتحدث عن اختلاف كبير بين مسودة قيصر الصادرة في 2016 وقانون قيصر في 2020، الذي يختلف بدوره عن الإجراءات العقابية التي اتخذت في حقّ النظام العراقي أو قانون محاسبة سوريا أو العقوبات التي تتعرض لها إيران.
ويشرح: ثمة شركات كثيرة متورطة مع النظام لم يطلها القانون، كما شركة أجنحة الشام للطيران التي دأبت على تسيير رحلات ترانزيت الى دول أوروبية كثيرة بينها ألمانيا والسويد. القانون تضمن في مسودته في 2016 وجوب محاكمة أمراء الحرب لكن لم يتم ذكر المحاكمة في القانون بل حكوا عن الجانب الإنساني ووجوب الضغط على النظام لإيجاد حل سياسي.
قانون قيصر يريد عزل النظام عن العالم الخارجي في حين أن مسودة قيصر أرادت محاكمة أمراء الحرب. قانون قيصر يريد تفكيك منظومة النظام بفرض العقوبات الذكية. أما بالنسبة الى الكلام عن أن القانون سيشلّ حركة البنك المركزي في سوريا فكلنا نعلم أن لا علاقة لهذا المصرف بالتواصل الخارجي، الذي يعود للبنك التجاري لا للبنك المركزي.
ويستطرد الباحث الإقتصادي بالقول: معظم المؤسسات السيادية والشركات المغفلة، التي لا تتبع الحكم السوري، غابت عن هذا القانون وبالتالي لا يحق حجزها.
ناهيكم عن أن كثيراً من أراضي سوريا أصبحت روسية وبالتالي لا يحق للأميركيين فرض القانون عليها. القانون بكلام آخر تمّ تفريغه من محتواه ويهدف فقط الى منع تعويم النظام في العالم العربي والتقارب بينه وبين دول الخليج.
قانون قيصر لن يرفع “الزير من البير” في سوريا لكنه قد يفعل هذا في لبنان! كيف؟ الباحث الإقتصادي السوري يتحدث عن “حزب الله” الذي أصبح مشكلة دولية، فهو “الآمر الناهي” في لبنان البلد الذي أصبح ساحة معدة للإنفجار.
هذا القانون سيتوجه نحو حلفاء سوريا وابرزهم “حزب الله”، الحليف الأقوى والأكثر خطراً بسبب القرب الجغرافي.
ويستطرد الكريم بالقول: “من الخطأ الظنّ بأن هذا القانون جاء لتغيير بنية النظام في سوريا بل هو أشبه ما يكون برياضة صيد السمك، حيث يفترض الشدّ حيناً و”الرخي” حيناً آخر من أجل إنهاك السمكة”.
يفرض قانون قيصر حظراً نفطياً على سوريا لكن، ما يتجاهله هؤلاء أن 93 في المئة من النفط في سوريا، بحسب الأرقام الرسمية، خارج سيطرة النظام. هو ينتج 16 ألف برميل فقط من أصل أكثر من 450 الف برميل. يعطي الباحث الاقتصادي هذه الأرقام ويقول: ما ينتجه النظام لا يغطي احتياجات دمشق وحدها لا سوريا. أما لجهة إعادة الإعمار فالنظام أوكل هذه العملية الى شركات لا علاقة له بها، ويقتصر عمله على منح التراخيص. وهنا علينا أن ننتظر لنعرف إذا كان منح التراخيص يعتبر تواصلاً مع الحكم. النظام يتلافى ذلك وهو أنشأ شركة خاصة “شركة دمشق القابضة” من أجل تلافي العقوبات.
النظام السوري، الذي تعتبره روسيا غبياً، ذكي، فهو دأب منذ أيام على تحميل قانون قيصر، الذي لم يبدأ أصلاً،
نتائج الإنهيار الداخلي. وهو العارف تماماً أن التأثير الأكبر سيكون على لبنان، من خلال “حزب الله”، فهذا القانون سيُحمّل الحكومة اللبنانية، كون “حزب الله” هو من يُمثلها ويديرها، مسؤولية كبيرة في إنعاش النظام السوري.
ويستطرد الكريم بالقول: نحن نعلم جيداً أنه بمجرد أن “يشمّ” هذا القانون “الهواء” في لبنان ستنهار الليرة اللبنانية بالكامل! في المقابل، قانون قيصر لن يؤثر على الداخل السوري إلا نفسياً!
لا يلتقي سوريان إلا ويكون الحديث عن قانون قيصر وارتفاع الدولار والمعركة بين أسماء الأسد ورامي مخلوف ثالثهما. يقلب سوري في صفحات السوشيل ميديا ويتوقف عند معرض سيارات في سوريا يعرض كل سياراته، موديلات 2017 و2018 و2019، تحت خانة “وارد من لبنان”.
يبتسم بسخرية ويسأل: هل لكم أن تخبرونا كيف تدخل كل هذه السيارات من لبنان الى سوريا؟
يتحدث السوريون عن الأسباب التي أدت الى ارتفاع الدولار، بالشكل الذي ارتفع فيه في سوريا، ويعودون ويبتسمون مجدداً بسخرية شارحين كيف يلعب النظام لعبته بخبث عبر مضاربين محليين وشركات تحويل داخلية تابعة لرجال أعمال محسوبين على النظام متخيلاً أن لا أحد يعرف ألعابه وألغامه. النظام في سوريا ذكي أو غبي؟ نتذكر أن بين الذكاء والغباء مجرد شعرة رفيعة انقطاعها سهل.
لن تتأثر كثيراً سوريا بأي عقوبات أما لبنان فبلى. وقانون قيصر يستثني المواد الغذائية والأدوية من إجراءاته، وكلنا نعلم أن سوريا تملك اكتفاء في المواد الغذائية وهي تنتج سنوياً مئات الأطنان من المربيات والخضار، والنقص الوحيد الذي تعاني منه هو في الطحين وهي تستورده من روسيا. في كل حال، وزارة الخزانة الأميركية ستراقب جيداً كل الأنشطة التي تحصل من والى سوريا، ولبنان هو المعني الأول فيها.
70 في المئة من الأنشطة السورية، بحسب معارض سوري، تحصل عبر لبنان. ويشرح: يشتري النظام النفط من قوات سوريا الديموقراطية، الموجودة في شرق سوريا، ويرسله الى لبنان مقابل الدولار. ثمة تجارة كبيرة بين كبار في البلدين. هؤلاء هم تجار الحرب.
يضيف السوري: أقصدوا أسواق سوريا واسألوا عن مصادر المواد ستجدون أن بين سبعين الى ثمانين في المئة منها من لبنان. الأزمة السورية لا بُدّ أن تكون متصلة بلبنان وآثار قانون قيصر ستلمسونه في لبنان قبل سوريا.
يتحدثون هناك عن تجارة المخدرات في القصير، على الحدود اللبنانية السورية تحديداً، حيث توجد شبكة يقودها كبار الرؤوس في لبنان وسوريا. ويُظهِر أحد السوريين الموجودين في فرنسا قصاصات ورقية من صحيفة الغد الأردنية تتحدث في شكل متتالٍ عن كشف مخدرات مصدرها سوريا.
لماذا القصير؟
يجيب: هذه المنطقة، التي سبق وعزز “حزب الله” وجوده فيها، هي أرض زراعية شاسعة واسعة وتمّ استثمار مساحات كبيرة منها في زراعة الحشيشة، وهي تضم معبراً حدودياً مع لبنان يديره أشخاص نافذون.
كلام كثير. اتهامات كثيرة. وتوقعات مداها الخوف والإنتظارات الكبيرة. والسوريون، الذين هم في قلب الأزمة،
يتوقعون ان يكون المواطن في لبنان (أولاً) الضحية. في كل حال، يتوقعون في سوريا ان لا تظهر التأثيرات في بلدهم إلا بعد ثلاثة أشهر. والنظام هناك يعرف انه يحتاج الى 2 مليار دولار سنوياً،
أي بمعدل 10 مليارات دولار في خمس سنوات، ليتمكن من تخطي تأثيرات قانون قيصر الاقتصادية عليه. وهو،
وإن كان يلعب الآن لعبة تخويف الناس من القانون الآتي، على أنه بعبع سيصيبهم، بإخفاء سلع وبرفع سعر الدواء، غير أنه مدرك أنه يستطيع عبر الحدود مع لبنان، التي لن توصد في وجهه، الحصول على العملة الصعبة.
هو يراهن على لبنان وهناك من يراهنون في لبنان على الإمساك بكامل اللعبة السياسية والإقتصادية والأمنية في سبيل تجاوز الأيام الصعبة.
نعود الى ضياء دغمش لسؤاله ما إذا كان أهالي سوريا ما زالوا يثقون، بعد مرور تسعة أعوام على الثورة في سوريا، أن “قبع” بشار الأسد ممكن؟
يجيب: لم يعد لدى الشعب السوري، بعد سقوط مليون ضحية وتدمير البلد، ما يخسره لذا مقولة تراجع الشعب فاقدة للمعنى.
الشعب السوري يرى سوريا اليوم المشلعة التي تسيطر عليها عشرات الجيوش والتي بيعت نتفاً الى الإيرانيين والروس والفصائل. وأتى قانون قيصر ليُحيي فيهم الأمل مجدداً.
هل استعادة المواطن السوري الأمل سيأتي على حساب المواطن اللبناني الذي سيدفع الثمن؟ يجيب دغمش: هناك من يريد أن يجعل من لبنان محرقة للنظام السوري. ويستطرد: النظام السوري قادر أن يصمد حتى آخر سوري في سوريا. اللهم ألّا يكون صمود لبنان حتى آخر نفس لبناني.
السوريون المنتشرون في الإغتراب نجحوا في إبقاء وطنهم حياً في قلوبهم وفي محافل أصحاب القرارات الدولية. نجح العسكري قيصر حيث أخفق آخرون. فهل سينجح قانون قيصر؟
رفعت يافطات في سوريا كتب عليها: “نقسم بالله أنه لو أمطرت الدنيا حرية فسيضع العبيد مظلات”. السوريون طالبوا عبر هذه اليافطات الخانعين بالحراك، وان كانوا عالمين ان الحراك في قلب الشام او على الساحل السوري شبه محال. فمن أصل كل ثلاثة أشخاص يجتمعون هناك واحد على الأقل مخابرات.
ما زالت هذه اللعبة لعبة النظام المفضلة. وهنا يُخبر أحدهم “خبرية” تتردد هناك على شكل مزاح: مصرف سوريا يؤكد انه سيتم ضخّ سيولة من الدولارات في السوق مقدارها 23 مليار دولار وسيعود سعر الصرف الى 200 ليرة سورية. وحين يُسأل عن المصدر يجيب بسخرية: “شوفير تاكسي”! ويعود ويستطرد بجواب: ربما يكون من يريد احكام قبضته في بلادكم قد احكمها ويأتينا من لبنان الدعم على طبق من دولارات.
هتافات كثيرة عادت تصدح في أرجاء سوريا الآن، قبل أن يبدأ قانون قيصر. الأسعار ارتفعت بلا ذنب من قيصر.
فقيصر هذا لا يريد من سوريا سوى عدم تعويم النظام السوري أما ارتداداته فستكون على ما ومن يمنحه كل مقومات الصمود. هو نظام يقول عنه الروس انه غبي. هو نظام يستمر بإنزال تظاهرة مقابل تظاهرة. وهو يلعب ألعاباً باتت بائخة وهو العالم،
لكن المتجاهل، أن البلاد التي أؤتمن عليها تحتل عاصمتها دمشق (بحسب تصنيف صحيفة الإيكونوميست) المدينة رقم واحد بين المدن غير الملائمة للعيش على مستوى العالم.
سوريا ستصمد. لبنان لا. هناك، في سوريا، ضجيج كثير أما هنا فالموت يزحف!
مصدر : نداء الوطن