أن تكون الفتنة نائمة يعني أنها موجودة. ويعني أيضًا أن كل المحاولات التي بذلت على مدى سنوات لوأد الفتنة لم تكن سوى حبوب مهدئة ومسكنة. ويعني أيضًا أن بذور الحرب لا تزال متجذرة في النفوس،
على رغم أن ما في النصوص لم يكن كافيًا لجهة القفز فوق نيران الفتن الموسمية التي عرفها لبنان الحديث،
بدءًا بحوادث 1958، التي إنتهت بشعار لا غالب ولا مغلوب، ومرورًا بحرب العام 1975،
التي إنتهت بإتفاق الطائف، وصولًا إلى أحداث 7 أيار عام 2008، التي قادت إلى إتفاق الدوحة، فضلًا عن الإستفزازات الفردية، التي رافقت إنتفاضة 17 تشرين الأول.
كل هذا الكلام يأتي غداة الكلام الكبير عن نعي البعض صيغة العيش المشترك، التي قام على أساسها لبنان التسوية الدولية، التي كان لها مصلحة في تعايش اللبنانيين المنتمين إلى الديانتين الإسلامية والمسيحية، وهذا ما دفع البابا القديس يوحنا بولس الثاني إلى وصف لبنان بأنه رسالة وليس بلدًا عاديًا.
وكان سبق هذا النعي، الذي جاء على لسان المفتي الجعفري الممتاز، كلام من نوع آخر حول الفيديرالية،
الذي أظهرت حوادث 6/6 أنه أحد الخيارات المطروحة في السرّ ، وقد تصبح بعد أن تنضج الطبخة في العلن، وهذا ما حذّر منه جميع الذين لا يزالون متمسكين بصيغة العيش الواحد، ليس فقط على مستوى الديانات، بل على مستوى المذاهب أيضًا.
ويقول هؤلاء أن صيغة 1943 لم تكن مثالية مئة في المئة ليس من الناحية الإيديولوجية بل من الناحية العملية وفي ممارسة الطوائف للسلطة، التي ادخلت إليها الإستنسابية والإنتقائية، سواء قبل الطائف أو بعده، لأن “دود الخل منو وفيه”. فالخطأ لم يكن في هذه الصيغة الحضارية،
بل في عدم تطبيقها وفق روحيتها، وهذا ما شهدناه على مدى سنوات، ولا نزال نشهده، على رغم أن ما جاء في الطائف كان لمصلحة الجميع، الذين كوتهم الحرب العبثية وبعض الممارسات الخاطئة لجهة الإستئثار بالسلطة.
فلو إعتمد لبنان الفيديرالية، على ما يرى أصحاب صيغة العيش الواحد، لما كان إستمر طويلًا،
ولما كان إستطاع أن يتجاوز ما كان يُفترض أن تقوم بين الأقاليم، على رغم صغرها، من حروب حتمية، ولكان كل إقليم سينقسم على نفسه، وهذا ما شهدته المناطق والكانتونات الطائفية إبّان الحرب من تناحر داخلي ضمن الصف الواحد، وما شهدته هذه المناطق من إنتفاضات وإنقسامات خطيرة.
لكل هذه الأسباب لا يزال المؤمنون بصيغة العيش الواحد متمسكين بها، مع حرصهم على أن تُطرح كل الأمور الخلافية على طاولة حوار حقيقي لمعالجة الثغرات في ممارسة الطائف وتطبيقه حرفيًا، خصوصًا لجهة إلغاء الطائفية السياسية، التي يتبين يومًا بعد يوم أنها علة العلل،
وهذا ما حصل بالتحديد يوم السبت الأسود بصيغته الجديدة، والتي كاد أن يتحوّل تكرارًا إلى سبت اسود بطبعته الأولى لولا حرص الغيارى على بقاء لبنان في منأى عن التأثيرات الخارجية في تركيبته الداخلية، وكذلك لولا متانة التركيبة الصلبة للجيش اللبناني، الذي يبقى فوق الشبهات وفوق الطائفية، وهو باقٍ الركيزة الأساسية في السلم الأهلي، وفي الحدّ من “طموحات” البعض في جرّ البلد إلى حيث لا تزال الفتنة نائمة.