الفتنة ليست نائمة. الفتنة مستيقظة منذ سنوات طويلة. لا يوهمنا أحد بغير ذلك. كل التصريحات التي صدرت بعد حوادث الأمس في بيروت، تحض على الإبتسامة الحزينة.
الفتنة ليست نائمة ليخرج علينا الجميع بمواقف تدعونا إلى عدم إيقاظها، لأنها في صحوها “تخدم الأعداء”، الذين، وللأمانة، لم نعرف يوماً من هم بالتحديد. الفتنة مستيقظة. تحيا بين ظهرانينا. تعيش بيننا. نطعمها ونشربها ونأويها كأنها جزء من عائلتنا. نسامرها ونرمي عليها الصباح. صباح أيامنا المتشابهة والرتيبة، وأمسياتنا المشبعة بالقلق والخوف.
الفتنة تشبهنا. نغذيها طوال فترات السلم المتقطع، لتشبع غرائزنا الطائفية وتخلفنا الاخلاقي في أوقات الأزمات والحروب.
ما جرى في بيروت والمناطق طوال نهار السبت، صار عبارة عن مشاهد متكررة الى حد الملل. الجائعون أنفسهم، والعاطلون عن العمل،
والشباب الذين إذا خيرتهم بين العمل والحرب، لاختاروا العمل ولو بكفاف يومهم، هؤلاء هم أنفسهم من يستفزون غرائز بعضهم بعضاً، ويهدرون دماء بعضهم بعضاً.
هؤلاء الذين يتشاركون البؤس وضيق الأفق، قادرون على التمسك بأسوأ ما لدى الطائفيين والمتخلفين من كلام وأقاويل واعتقادات،
ثم التصريح بها “وقت اللزوم”، إما بأمر من “الجهة” الضامنة لسلامتهم، أو لمواجهة “الخصم”، بغباء صريح، بما يفترض أن يمحقه، أي المقدسات.
يرتكب هؤلاء هذه الحماقات كتعويض عن شعور عميق بالمذلة والضعف من أقرب المقربين. من السلطات الطائفية التي يفترض أن تؤمن لهم أساسيات البقاء على قيد الحياة،
في بلد تتقلص فيه فرص كل شيء. لكن في الوقت عينه يلعبون لعبتها، التي لا تكون مربحة الا لها، فيما هم الخاسرون دائماً.
خرج الجميع أمس ببيانات إستنكار ودعوات لوأد الفتنة. جميل. هذا هو المطلوب. لكن ربما فات أهل السلطة،
السابقون والحاليون، أن تلك الدعوات لن تعطمنا خبزاً إذا اشتد فقرنا أكثر، وصار الجوع غضباً لا يمكن لجمه. لأن الجائع في بلد تشرّب أهله الطائفية، والتمييز بين منطقة وأخرى، سيصب لعناته وحقده الدفين على الخصم في طائفته، لا على السلطة التي أفقرته.
وهذا يعني أننا نتّجه الى حرب أهلية ومناطقية، وفوضى لا كابح لها. سيسمع الجياع من أبناء الطوائف دعوات زعمائهم الى التهدئة،
لكن لن يلبثوا ساعة حتى يهبوا لــ “كسر رأس” الخصم، الجائع أيضاً، من الطائفة الأخرى.
فكروا قليلاً. فكروا بهذا البلد الذي لا يبلغ حجمه مساحة محافظة من محافظات دول عربية كبيرة، لكن أهله مستعدون لخوض الحرب تلو الأخرى. أن يجعلوا كل ما بني حطاماً وركاماً، يرقصون فوقه مزهوين بانتصارهم على أبناء الطوائف “الآخرين”.
وإلى أصحاب السلطة. فكروا بأن الجوع كافر، وأن الكفار بإمكانهم أن ينكروا كل شيء، بما فيها سلطتكم حين يشتد جوعهم وألمهم. بعضهم سيظل وفياً لآخر لقمة تتكرمون بها عليه، لكن البقية لن يكونوا كذلك. وعندها، لن يكبح جنونهم لا خطابات، ولا تغريدات، ولا بيانات، ولا مصافحات كاذبة.
المصدر: خاص “لبنان 24”