تشير أحوال المواطنين إلى حاجتهم لجرعات إيجابية من أي نوع كانت، وإن مؤقتة وممزوجة بعلم يقين بعدم دوام الحدث الايجابي.
ينتمي بدء تطبيق الصرّافين للتعميم الوسيط رقم 553/2020، الصادر عن مصرف لبنان، إلى خانة الأنباء الإيجابية. إذ يفرض التعميم على الصرّافين التقيّد بالحد الأقصى لسعر صرف الدولار عند 3200 ليرة للمبيع. ومع أن التطبيق تأخّر نحو شهر، فقد كان من المفترض أن يسري مفعوله ابتداءً من يوم الاثنين 27 نيسان الماضي، إلاّ أن المواطنين رحّبوا به، آملين أن يكون بادرة أمل للمزيد من انخفاض لسعر صرف الدولار.
عند كل منعطفٍ، يمتنع الصرّافون عن بيع الدولار، سواء فتحوا أبواب مؤسساتهم أو أقفلوها. علماً أن إقفالها لم يعنِ يوماً توقّفهم عن العمل. إذ كانوا يعملون بواسطة أدواتٍ لهم، تجوب الشوارع والمؤسسات بحثاً عن الدولار. والامتناع زاد من ارتفاع سعر العملة الخضراء، حين تراكم الخوف من مزيد من الارتفاع، في ظل الحاجة إليها.
ولم يسهم توقيف نقيب الصرّافين محمود مراد، وختم عدّة محال للصيرفة بالشمع الأحمر، في خفض الأسعار لأكثر من بضعة أيام، وبمعدلات لا تتعدّى 250 ليرة بحدّها الأقصى. فبعد سلسلة الملاحقات للصرّافين الذين قيل أنهم يتلاعبون بسعر الصرف، عاد الصرّافون منتصرين، فحتى تعميم المصرف المركزي، لم يُطبَّق كما أراده المصرف، وإنما فَرَضَ الصرّافون رأيهم بالخفض التدريجي لسعر الدولار. فقد أعلنت نقابة الصرّافين “تسعير صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية لنهار الأربعاء 03-06-2020 حصراً، بهامش متحرك بين الشراء بسعر 3950 كحد أدنى، والبيع بسعر 4000 كحد أقصى”.
إنطلاقاً من عودة الصرّافين عن إضرابهم، وعدم تطبيق قرار مصرف لبنان، بات تصحيح علاقة الدولة بالصرّافين أشبه بجائزة ترضية أعطيت لهم، بعد “خذلانهم” من قِبَل الدولة. فبدل إشراكهم بالمنصة الإلكترونية لتحديد سعر الصرف، والتي تأخّر إطلاقها، اتّهمت الدولة الصرّافين بالتلاعب بسعر الصرف، واعتقلت نقيبهم، فشوّهت بالتالي صورتهم أمام الناس، وها هي الدولة اليوم تعيد تلميع صورة الصرّافين، وترضى بشروطهم لإعادة فتح أبوابهم واستئناف عملهم، وكأن شيئاً لم يكن.
التدرّج في خفض سعر صرف الدولار، يعني ترك هامش للصرّافين بالتراجع عن بيعه بسعر منخفض، إذا ما تبدّلت الأحوال في السوق على عكس ما يشتهونه، أو صدر من الدولة ما لا يألفونه. والتراجع في هذه الحالة، يكون عند أقل “خسائر” ممكنة. على أن يرفع الصرّافون الأسعار لتعويض الخسائر، وبالتوازي للتفاوض مع الدولة من موقع قوة. أما حين يُعمَل بسعر 3200 ليرة دفعة واحدة، فسيكون من الصعب على الصرّافين رفع سعر الدولار إلى نحو 4000 ليرة وما فوق. فحينها سيبقى السعر حُكماً تحت سقف الـ4000 ليرة.
لكن لماذا يسمح مصرف لبنان والحكومة بالخفض التدريجي؟ في الأصل، لا تعارض بين توجهات كبار الصرّافين وتوجهات أهل السلطة للاستفادة قدر الإمكان من ارتفاع أسعار الدولار. فمنذ اللحظة الأولى، امتنع مصرف لبنان عن التدخّل لحماية الليرة، متذرّعاً بعدم صلاحية المصرف لضبط سعر الدولار، كونه سلعة خاضعة لمبدأ العرض والطلب. وكذلك، امتنعت الحكومة عن الإتيان بأي إجراء يحمي الليرة ومصالح اللبنانيين وأمنهم الاقتصادي والاجتماعي. لكن مذ بدأت الأمور تخرج عن السيطرة، وانفضح تواطؤ مصرف لبنان والسلطة السياسية، احتاج الطرفان إلى كبش فداء لتبييض صفحتهما، فكان الصرّافون هم الحلقة الأضعف، خصوصاً وأن السلطة تحتاج لما تُثبت به نيّتها إجراء إصلاحات وضبط الأوضاع، لأنها كانت تتحضّر لدخول المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
بعد انطلاق سير التفاوض، ولملمة السلطة تداعيات خلاف الحكومة ومصرف لبنان حول الأرقام المالية، وساد الهدوء رغم توجّه الطرفين بأرقام مختلفة للتفاوض مع الصندوق، وسبق ذلك انخفاض صوت الاعتراض الشعبي، بعد موجة الاعتقالات التي طالت الصرّافين، برزت الحاجة لإصلاح العلاقة مع الصرّافين، وحفظ مكانتهم في اللعبة، فوافقت السلطة على الخفض التدريجي للسعر، كاسرة بذلك قرار المركزي.
ارتياح المواطنين ليس سوى تعلّق الغريق بقشّة. فالجميع يعلم أن الحلول الجذرية والفعّالة مستحيلة، ورغم ذلك، يحتاج الجميع إلى استراحة محارب من القلق والخوف والتفكير. وعليه، كان الترحيب بخفض السعر. لكن تجّار الدولار في السوق السوداء، وبعض المواطنين الذين يبحثون عن دولار بأسعار منخفضة لتلبية حاجة ملحّة، يتوافقون عبر أحاديث في مجموعات على “الواتساب”، على أن خفض سعر الدولار لن يدوم طويلاً، على غرار المحاولات السابقة. فعلى الأقل، لا شيء يمنع الصرّافين من إخفاء الدولار وعدم بيعه، ما يخلق حجم طلب غير متكافىء مع حجم العرض، وهو ما يرفع السعر حكماً.
أما عن استعداد مصرف لبنان لتأمين الدولار للمستوردين، فهذه المعادلة غير مستقرة، وعرضة للتقلبات حسب حجم توفّر الدولار، وحسب الظروف السياسية والاقتصادية العامة. وهذا ما يعزز فرضية عودة سعر صرف الدولار إلى الارتفاع، وإن كان الموعد غير محدد، لكنه لن يكون بعيداً جداً.
المصدر: المدن