يباشر مصرف لبنان ابتداء من اليوم، 27 أيار، وفق ما أعلن منذ أيام، باتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية الليرة، ومن ضمنها توفير الدولارات لتأمين استيراد المواد الغذائية الأساسية. تأكيد مصرف لبنان عزمه التدخل في السوق ابتداء من اليوم دفع بالمواطنين كما التجار والمستوردين إلى ترقّب يوم 27 أيار باعتباره موعداً لإطلاق العمل رسميًا بالمنصة الإلكترونية، والمباشرة بتسليم الدولار لمستوردي المواد الغذائية، وفق سعر صرف متوسط ومقبول، بالمقارنة مع سعر الصرف في السوق السوداء البالغ نحو 4000 ليرة للدولار..
ونظراً لقوة الترويج التي سبقت هذا التاريخ (27 أيار) ظن البعض أن اليوم سيشكل كابحاً مفاجئاً لازتفاع سعر الدولار، وأن الأسواق ستلمس تغيّراً جذرياً في سوق الصرف. الأمر الذي أحدث إقبالاً كثيفاً على بيع الدولار بأسعار تتراوح بين 3950 ليرة و4070 ليرة، خوفاً من إطلاق المنصة وانخفاض سعر الدولار في السوق. لكن بالواقع، أن لا منصة اليوم ولا تغييراً جذرياً سيحصل قريباً. وكل ما في الأمر أن مصرف لبنان يعمل على جمع الدولارات من السوق مؤخراً، ويستكمل تحضيراته من اليوم، تمهيداً لتنفيذ خطته للتدخل بسوق الصرافة، لدعم استيراد سلة من المواد الغذائية الأساسية، وتكريس نفسه لاعباً أساسياً في سوق الصرف، لضبط حركة أسعار الدولار.
ويعوّل كثيرون على الخطة (إذا صحّ وصفها) التي وضعها مصرف لبنان بالتعاون مع وزارة الإقتصاد، والقاضية بسحب الدولارات من السوق وبيعها لمستوردي المواد الغذائية، أملاً بخفض الأسعار في الأسواق من جهة، ولجم الطلب على الدولار لدى الصرّافين من جهة أخرى. وتالياً، ضبط تصاعد سعر صرف الدولار.
والسؤال هو: ما مدى احتمال نجاح هذه الخطة؟ وما مدى القدرة على ضبط تصاعد سعر الدولار، في ظل تضاؤل كمية الدولارات في البلد؟
المنصة الإلكترونية لن تؤمن الدولارات،
إنما ستشكّل الآلية الرسمية لإدارة سوق الصرف، بالتعاون مع من يتعاطون بتجارة الدولار خارج السوق السوداء.
بمعنى أن سعر صرف الدولار، حتى وإن نجحت خطة المنصة، لن يشهد انخفاضاً على المدى المنظور،
إنما سيخضع لضوابط قد تلجم تفلّته وتصاعده غير المدروس.
ويضع مصرف لبنان اليوم نصب عينيه عملية التدخل بالسوق لضبط الدولار،
لاسيما أن لبنان انتقل من الاقتصاد المصرفي إلى الاقتصاد النقدي.
وهذا الأمر يتم اضطرارياً على الرغم من أنه خارج المألوف،
وإن كان قانونياً، يقول رئيس لجنة الرقابة على المصارف المنتهية ولايته سمير حمود في حديث إلى “المدن”.
فالتحويلات المالية من الخارج باتت تسلك بغالبيتها مسار التحويلات النقدية “الكاش” وليس عبر البنك. من هنا تُعد أي حركة خارج الحسابات المصرفية “حركة قزمة”،
أي حركة ضعيفة. والسبب أنه بات في لبنان دولارين: مصرفي ونقدي.
والمقصود بالدولار المصرفي هو الدولار غير القابل للتحويل إلى الخارج. أي الدولار اللبناني أو ما يُعرف بالـ”لولار”. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لا يوجد بلد واحد في العالم لديه مقاصة بالعملة غير الوطنية كالدولار. ففي كافة دول العالم لا مقاصة داخلية لديها ولا تتبادل بالشيكات سوى بعملتها الوطنية. أما في لبنان، فالمقاصة الداخلية تقوم منذ ما بعد الحرب اللبنانية،
على تداول شيكات بالدولار المصرفي،
الذي يختلف عن الدولار النقدي، ويتم التداول به في السوق وبين المواطنين على الرغم من أن قيمته ليست حقيقية.
يتركّز عمل المنصة، المرتقب إطلاق عملها رسمياً خلال شهر حزيران المقبل،
على تحديد سعر المعروض من الدولار بشكل يومي، وفرض اعتماده في السوق النظامية.
والمنصة لن تكون معنية بأي شكل بتأمين الدولارات، ما لم تكن متوفرة أصلاً في السوق.
من هنا، يؤكد خبراء الاقتصاد استحالة ضبط سعر الدولار وتوحيده أو خفضه،
ما لم تستعد السوق توازنها لجهة العرض والطلب. وهو ما لا يمكن أن يتم إلا بضخ دولارات جديدة في البلد من أحد أو كل المسالك الرسمية،
كالمداخيل السياحية أو تحويلات المغتربين أو رفع الصادرات بالتوازي مع خفض الإستيراد.
لن نشهد وفرة بالدولار في المرحلة الراهنة.
وارتفاع سعر الدولار لن يجذب مزيداً منه،
بل سيؤدي إلى رفع أسعار البضائع والمواد الإستهلاكية، يقول حمود.
فتوافر الدولار يرتبط بتوافر البضائع بالسوق، وارتفاعه بارتفاع أسعار البضائع بالسوق.
لكن لن يشهد السوق زيادة في توافر الدولار.
ولأن عرض الدولار محدود،
فذلك لن ينعكس سوى نقص بالبضائع في السوق. فالعرض محدود للدولار. ومهما كانت الآليات، ستكون النتيجة نقصاً في المنتجات والبضائع. وبحسب حمّود، يتواجد في المصارف 110 مليارات دولار لا يمكن بيعها. أما في البيوت وبين الصرافين، فيتواجد أكثر من 4 مليارات دولار. ويبلغ حجم الدولارات المتداولة في السوق شهرياً نحو 150 مليون دولار فقط. في حين كانت السوق تحتوي نحو 400 مليون دولار شهرياً خلال الأزم،ة مقابل أكثر من مليار دولار قبل الأزمات.
وانطلاقاً من النقص الهائل في حجم الدولارات في السوق،
وتراجعه من مليار دولار إلى نحو 150 مليون دولار شهرياً، سنشهد من دون شك نقصاً في البضائع،
على الرغم من خفض حاجاتنا اليومية.
بمعنى أن استهلاكنا تراجع قليلاً، وسيتراجع أكثر لاحقاً،
مع التعويل على إعادة فتح البلد في الشهر المقبل، واستعادة بعض الاستقرار، من خلال ارتفاع حجم التحويلات المالية من الخارج،
التي من المحتمل أن ترتفع إلى 400 مليون دولار، رغم أن ذلك سيشكل بطريقة أو بأخرى دافعاً لنشاط السوق السوداء.
نموذجنا المصرفي سيفرض علينا التأقلم مع سعرين للدولار.
وسيستمر أصحاب الودائع المصرفية أي الـ110 مليارات دولار في المصارف، أي الدولار المصرفي،
بالتعامل داخلياً وبالشيكات، على أن يحدد السحب النقدي بقيم محدودة وبسعر صرف السوق.
وهذه الأموال سيتم تداولها بالداخل. أما السعر الحقيقي للدولار فسيستمر بشقين، دولار نقدي وآخر مصرفي،
النقدي وهو الدولار المحوّل طازجاً من الخارج سيبقى سعره متميز عن سعر الـ110 مليار في المصارف أي الدولار المصرفي.
أما السعر المعتمد اليوم في المصارف أي 3000 ليرة، فمن الممكن أن يتم تعديله ورفعه في حال ارتفاع سعر الدولار النقدي أكثر.
لكن لا يمكن أن يتساوى السعران.
مصدر المدن