قد يظن المرء للوهلة الأولى أنه لا يوجد أي وجه شبه بين المناطق الخمسة الآتية: نيكويا في كوستاريكا، وسردينيا في إيطاليا، وإيكاريا في اليونان، وأوكيناوا في اليابان، ولوما ليندا في كاليفورنيا. غير أن هذه المناطق تمتاز عن غيرها بأن سكانها يتمتعون بصحة جيدة ويعمرون طويلا.
ويطلق على هذا المناطق اسم “المناطق الزرقاء”، حيث تزيد احتمالات العيش لأكثر من 100 عام بمقدار 10 مرات مقارنة بمتوسط الأعمار في الولايات المتحدة.
وصاغ مصطلح “المناطق الزرقاء” عالم الأوبئة الإيطالي جياني بيس، والباحث البلجيكي في علم السكان مايكل بولين، في مطلع الألفية الثالثة، للإشارة إلى المناطق التي يعيش سكانها أعمارا أطول من المعتاد. ومنذ ذلك الحين، تعاون الاثنان مع الصحفي الأمريكي دان بوتنر واكتشفوا بضعة مناطق أخرى حول العالم كان متوسط العمر المتوقع فيها أعلى بشكل لافت مقارنة بالمناطق الأخرى.
وعلى مدى 12 عاما، تابع العلماء أبحاثهم عن المناطق الزرقاء وتوصلوا إلى بعض الافتراضات التي قد تفسر أسباب طول عمر سكان هذه المناطق، ولخص بوتنر نتائج أبحاثه في كتاب صدر في عام 2008.
النظام الغذائي
درس بوتنر أنماط حياة سكان المناطق الزرقاء، واكتشف أنها تتضمن سمات متشابهة، منها النظام الغذائي. ولاحظ أن أكثرهم يأكلون باعتدال. ويتبع كبار السن في أوكيناوا على سبيل المثال قاعدة قديمة، مفادها أنهم لا يملؤون إلا 80 في المئة فقط من بطونهم. وأشارت دراسات إلى أنهم يستهلكون سعرات حرارية أقل بنسبة 10 في المئة مقارنة بالمتوسط الموصى به للبالغين.
ومن الواضح أن هذه القاعدة تسهم في تأخير الشيخوخة. إذ أثبتت دراسة طويلة الأمد أجرتها روزالين أندرسون، بجامعة ويسكونسين، أن القرود التي كانت تتبع نظاما غذائيا محدد السعرات الحرارية، كانت أقل عرضة للإصابة بالأمراض المرتبطة بالشيخوخة، مثل داء السكري والسرطان وأمراض القلب، وكانت تبدو أصغر سنا من نظيرتها التي لم تتبع نفس النظام الغذائي، إذ تأخر ظهور الشعر الأبيض في فرائها على سبيل المثال.
قد تكون المواظبة على التمرينات الرياضية يوميا واحدة من أسرار العمر الطويل لسكان المناطق الزرقاء حول العالم
وربما يعزى ذلك إلى أن تقييد السعرات الحرارية يسهم في الحد من تراكم الجذور الحرة السامة التي تنتج عادة عن التمثيل الغذائي، وقد تتلف الخلايا. ويرى بعض العلماء أن الحد من استهلاك السعرات الحرارية يساعد الجسم في التركيز على الحفاظ على الخلايا بدلا من بناء أنسجة جديدة على سبيل المثال.
ويرى ديدالي جوفينداراجو، عالم وراثة بجامعة هارفارد، أن تقييد السعرات الحرارية يسهم في الحد من مخاطر حدوث طفرات وراثية وتلف الحمض النووي، الذي قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان.
وبخلاف الاعتدال في الطعام، فإن معظم الأنظمة الغذائية التي يتبعها سكان المناطق الزرقاء غنية بالفاكهة والخضروات، وهذا يسهم في تحسين صحة القلب.
الجانب الروحاني
يعيش معظم سكان المناطق الزرقاء في مجتمعات مترابطة. وأثبتت الكثير من الدراسات أن الترابط الاجتماعي يسهم في الحد من آثار الضغوط النفسية، بينما تشجع علاقات الصداقة على المواظبة على الأنشطة البدنية والاجتماعية.
وخلص تحليل للدراسات أجرته الأخصائية النفسية جوليان هولت لونستاد، من جامعة بريغام يونغ بولاية يوتا، إلى أن العلاقات الاجتماعية تلعب دورا لا يقل أهمية عن دور الرياضة والأنظمة الغذائية في الحفاظ على الصحة.
ولوحظ أن الانتماء الديني يسهم في تقوية الترابط الاجتماعي في المناطق الزرقاء. إذ ينتمي معظم سكان لوما ليندا لطائفة الأدفنتست السبتيين، في حين أن سكان نيكويا وسردينيا كاثوليكيون، وسكان إيكاريا أرثوذوكسيون. ويمارس سكان أوكيناوا الطقوس الدينية السائدة في جزيرة ريوكو القائمة على توقير الأجداد واحترام العلاقات بين الأحياء والأموات والآلهة والأرواح.
وأجرى بوتنر لقاءات مع 263 معمرا في المناطق الزرقاء، وذكر كلهم، ما عدا خمسة منهم، أنهم ينتمون إلى مجتمعات دينية.
لوحظ أن الترابط الاجتماعي والانتماء الديني من السمات الشائعة بين المعمرين في بعض المناطق مثل أوكيناوا
إذ تسهم الممارسات الدينية بأشكالها في تقوية العلاقات الاجتماعية وتساعد المرء على إيجاد هدف في الحياة، وتعد وسيلة لتفريج الهموم وقت الضيق. وأشارت دراسة إلى أن ممارسة الطقوس والشعائر الدينية الجماعية مرة أسبوعيا على الأقل يزيد متوسط العمر المتوقع بما يتراوح بين سنة وخمس سنوات.
لكن هناك أيضا تجمعات في بعض المدن للملحدين واللادينيين قد تتيح لهم نفس الفوائد التي يحصل عليها المتدينون من التجمعات الدينية فيما يتعلق بالصحة والعمر، إذ تساعدهم على ممارسة التأمل والحصول على الدعم الاجتماعي من أشخاص يتبنون نفس الآراء.
شرب الشاي والقهوة
لكن هناك سمات أخرى ينفرد بها سكان بعض المناطق الزرقاء قد نستدل منها على أسرار طول العمر. إذ اشتهر سكان جزيرة إيكاريا، بالمواظبة على شرب بضعة أكواب من الشاي والقهوة يوميا، وربطت دراسة بين انخفاض معدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية في المنطقة وبين عادات سكانها الغذائية، مثل شرب الشاي والقهوة.
وأشارت دراسة مطولة إلى أن المواظبة على شرب بضعة أكواب من القهوة والشاي يوميا، يقلل مخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. وذلك لأن هذه المشروبات الساخنة تحتوي على الكثير من المغذيات الدقيقة، مثل المغنسيوم والبوتاسيوم والنياسين وفيتامين هـ، التي تقوم بدور مضادات أكسدة وتتخلص من الجذور الحرة السامة التي تسبب الكثير من الأمراض.
وأشارت دراسات إلى الفوائد الصحية للقهوة اليونانية المطحونة، كونها غنية بحمض الكلوروجينيك، الذي يقلل الالتهابات في الجسم. ومن المعروف أن الالتهابات تحفز تراكم اللويحات على جدران الشرايين مما يزيد من مخاطر الإصابة بالأزمات القلبية والسكتة الدماغية.
يعتقد الباحثون أن القهوة اليونانية لها فوائد عديدة للصحة لأنها تحتوي على مركبات مضادة للالتهابات
وربطت دراسة أيضا بين شرب الشاي والقهوة وبين انخفاض مخاطر الإصابة بالنوع الثاني من داء السكري. إذ تساعد المركبات المضادة للالتهابات والمضادة للأكسدة بشكل عام، مثل حمض الكلوروجينيك، في الحفاظ على مستويات السكر في الدم، عن طريق تحسين قدرة الخلايا على الاستجابة للإنسولين.
طعامان
أثارت الأعمار الطويلة لسكان أوكيناوا اهتمام العلماء بمكونين أساسيين من مكونات نظامهم الغذائي، وهما البطاطا الحلوة والبطيخ المر أو القرع المر، لما لهما من خصائص قد تسهم في إطالة العمر.
إذ تعد البطاطا الحلوة المصدر الرئيسي للكربوهيدرات في أوكيناوا، وليس الأرز كما هو الحال في معظم أنحاء اليابان.
وعلى عكس الخبز، فإن البطاطا الحلوة لها مؤشر جلايسيمي منخفض، أي أنها تطلق الطاقة ببطء في مجرى الدم، فضلا عن أنها غنية بالمغذيات مثل فيتامين أ وج وهـ، وكلها مضادات أكسدة تساعد على التخلص من الجذور الحرة المضرة وتقلل الالتهابات.
ويساعد البوتاسيوم في البطاطا الحلوة على تخفيض ضغط الدم. ولدرنات البطاطا الحلوة فوائد صحية عديدة، منها أنها تحافظ على التوازن الميكروبي بالأمعاء، كونها غنية بالألياف، كما تقلل مخاطر الإصابة بالأمراض المزمنة بسبب احتوائها على القليل من الكوليسترول والدهون المشبعة.
ويستخدم سكان أوكيناوا البطيخ المر، الذي يشبه الخيار وله مذاق قريب من الشاي الأسود، في الكثير من الأطباق، من السلطات إلى العصائر.
ويحتوي البطيخ المر على مركبات قد تسهم في علاج متلازمة الأيض التي ترتبط بمقاومة الجسم للإنسولين.
ويستهلك سكان أوكيناوا أيضا كائنات بحرية غنية بالعناصر الغذائية، مثل الأعشاب البحرية والطحالب البحرية، التي قد تسهم في مقاومة الأمراض ذات الصلة بالشيخوخة.
مناظر طبيعية تطيل العمر
قد تحمل المناظر الطبيعية الخلابة التي تنعم بها هذه المناطق الخمسة بعض الأدلة التي تسهم في الكشف عن سر الأعمار الطويلة لسكانها.
إذ يعيش معظم المعمرين في سردينيا في منطقة جبلية رائعة تأسر الألباب. ولاحظ بيس وبولين أن أكثرهم يعملون في الفلاحة، وهذا قادهم للاعتقاد بأن العيش وسط المنحدرات يزيد اللياقة البدنية، بسبب الأنشطة البدنية الشاقة التي يمارسها السكان في حياتهم اليومية لكسب قوتهم.
في حين تنقسم جزيرة إيكاريا إلى قسمين جغرافيين، يتكون القسم الشرقي من صخور رسوبية، أما القسم الغربي فيقع على طبقة من الغرانيت التي يتسرب منها الرادون المشع إلى ينابيع المياه الشهيرة.
والعجيب أن أكثر المعمرين بالجزيرة يعيشون في المنطقة الغربية التي ترتفع فيها نسبيا مستويات الإشعاع، ويشاع بين سكان الجزيرة أن الينابيع تنتج مياه الخلود.
وخلص بحث أمريكي إلى وجود علاقة بين المستويات المنخفضة من الإشعاعات الطبيعية وبين طول الأعمار.
وأشارت بضعة دراسات على الحيوانات إلى أن الجرعات المنخفضة للغاية من الإشعاع قد تستحث استجابة مضادة للالتهابات وتسهم في إصلاح التلف في الحمض النووي.
والخلاصة أن طول الأعمار الاستثنائي بالمناطق الزرقاء مرده توليفة من العوامل العديدة، بعضها يقتصر على منطقة واحدة وبعضها يوجد في مختلف المناطق. لكن بشكل عام، فإن الأكل باعتدال والإكثار من تناول الفاكهة والخضروات والمواظبة على التمرينات الرياضية وشرب القهوة والشاي وإيجاد مساحة لاستعادة الهدوء النفسي والسكينة سواء في الكنيسة أو بالمشي بين المرتفعات، كلها عادات يمكن أن تصبح جزءا من حياتنا اليومية.
المصدر: BBC