مشكلة الحكومة الفعليّة مع سلامة هي مشكلة اختلاف أولويّات، وتضارب أهداف نقديّة وماليّة…
لم يعد سرّاً أن الانسجام بات مفقوداً تماماً بين تشخيص المصرف المركزي الأزمة القائمة في لبنان، وتوجّهات رئاستي الجمهوريّة والحكومة، وبدرجة أقل وزارة الماليّة. ظهرت هذه الحقيقة بشكل فج في مناسبات عدة، من لحظة اتخاذ قرار الامتناع عن سداد سندات “اليوروبوند” إلى مرحلة صوغ خطّة الإصلاح الحكومي، وصولاً إلى تجلّي هذا التباين في أسوأ أشكاله خلال الاجتماعات مع وفد صندوق النقد الدولي.
لكنّ التباين الواضح في الأولويّات والمصالح، والخلاف حول المقاربات المطلوبة للمعالجة، تحوّلا إلى ما هو أخطر في مرحلة من المراحل، مع توجيه رئيس الحكومة الاتهام الصريح لحاكم المصرف المركزي “بالغموض المريب”، إزاء ظاهرة تدهور سعر صرف الليرة، وبلعب دور في التحريض على هذا التدهور. ومن المعروف أن اتهام المصرف المركزي، المؤتمن على سلامة النقد، بالتآمر على سعر صرف، يمثّل تهمة توازي بخطورتها اتهام جندي بالخيانة العظمى في أوقات الحرب. وفي أي حال، كان اتهام رئيس الحكومة سلامة مبنيّاً على افتراض ضمني بوجود تقاطع مصالح بين سلامة وبعض الأقطاب السياسيين، يقضي بالسماح بتدهور سعر الصرف لتفجير الشارع في وجه الحكومة والعهد. وهذا تحديداً ما عبّرت عنه لاحقاً الأوساط السياسيّة والإعلاميّة المساندة للعهد ورئاسة الحكومة.
راهناً، دخل المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم على خط هذا الملف بالذات، لكن انطلاقاً من خيوط جمعها في ملف آخر، يتعلّق بما اعتبره مضاربة بعض الصرّافين على سعر صرف الليرة، فأوقف على ذمّة التحقيق مدير العمليّات النقديّة في مصرف لبنان مازن حمدان. في الواقع، سرعان ما تبيّن من التحقيقات أنّ ملف حمدان فارغ، فالعمليّات التي قام بها الرجل لم تكن سوى ما يقتضيه الوصف الوظيفي لموقعه في المصرف، وهي عمليّات تمّت وفقاً لتعاميم المصرف المركزي وتعليمات حاكمه. وفي كل الحالات، وبحسب المعطيات الواردة في بيان هيئة التحقيق الخاصّة، أجريت هذه العمليّات بحجم غير مؤثّر إطلاقاً نسبةً إلى حجم عمليّات سوق القطع الموازية، وبسعر صرف منخفض متناسب مع السقف الذي حدده مصرف لبنان لسعر الصرف المعمول به لدى الصرّافين. وأخيراً، كان بيان هيئة التحقيق وردّ فعل نقابة موظفي المصرف المركزي كفيلين بتأكيد وجود غطاء إداري واضح لكل ما قام به حمدان.
من الصعب أن نتوقّع أي معطيات دسمة من ملف حمدان، حتّى في حال الوصول إلى مرحلة مساءلة حاكم المصرف المركزي نفسه عن التعليمات والتعاميم التي نفّذها حمدان. وهذا الأمر تحديداً هو ما دفع البعض الى الاعتقاد بأن المسألة قد تنطوي على محاولة للضغط على سلامة، من دون الوصول إلى مرحلة فتح ملف جدّي يورّطه في مسار قضائي طويل.
لكن عمليّاً، من يريد البحث في قرارات سلامة التي أثّرت في سعر الصرف في السوق، يجب أن ينظر في مكان آخر مختلف تماماً، وبالتحديد في التعاميم التي أثرّت بشكل وازن في حجم النقد المتداول بالليرة اللبنانيّة والدولار الأميركي، وبالتالي في توازنات العرض والطلب. وهنا بالذات، يمكن الشروع بالبحث عن الدوافع، التي قد ترتبط بمعالجات احتاج الحاكم إلى القيام بها من أجل أولويّات أخرى، أو بغايات تآمريّة من النوع الذي تحدّث عنه رئيس الحكومة.
تعاميم سحب الودائع بالليرة
في مطلع أيار/ مايو 2020، بدأ مصرف لبنان إصدار مجموعة من التعاميم بهدف التعامل مع الجوانب النقديّة والماليّة للأزمة القائمة، ومنها تعميمان حملا الرقمين 148 و151. نصّ التعميمان في بنودهما على السماح لأصحاب الودائع الصغيرة بالدولار الأميركي، التي تقل قيمتها عن 3000 دولار، بسحبها نقدها بالليرة اللبنانيّة وفق سعر صرف سمّاه التعميم “سعر صرف السوق” (حددته المصارف لاحقاً عند حدود 3000 ليرة مقابل الدولار، وهو ما يقل كثيراً عن سعر الصرف الفعلي). كما سمحت التعاميم لأصحاب الودائع الكبيرة بالدولار الأميركي بسحبها بالطريقة نفسها، لكن وفق حد أقصى قدره 5000 دولار شهريّاً.
كان التخوّف الطبيعي هنا يتعلّق بأثر هذه التعاميم على سعر الصرف. فسحب هذه الودائع بالليرة لن يعني عمليّاً سوى ضخ المزيد من السيولة بالليرة اللبنانيّة، والتي ستتحوّل بشكل تلقائي إلى طلب على الدولار، إمّا لادخاره أو لاستهلاكه، خصوصاً أن الأسواق تعتمد على البضاعة المستوردة لتلبية معظم الاستهلاك المحلّي.
لمعرفة خطورة الموضوع، كان يكفي النظر إلى حجم السيولة المحتجزة على شكل ودائع مصرفيّة بالدولار الأميركي، والتي كانت تبلغ قيمتها في ذلك الوقت نحو 116.59 مليار دولار أميركي. ببساطة، كانت التعاميم ستسمح لهذه السيولة بالخروج إلى السوق تدريجاً، ووفق السقوف الممنوحة، لكن بالليرة اللبنانيّة. ولتبيان الأثر الكبير هنا، يكفي أن نذكر أن مجمل السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة لم تكن تبلغ قيمتها في ذلك الوقت أكثر من 13.8 مليار دولار أميركي. بمعنى آخر، كانت السيولة التي ستسمح التعاميم بخروجها إلى الأسواق بالليرة توازي قيمتها أكثر من 8 مرّات السيولة الموجودة والمتداولة أساساً بالليرة اللبنانيّة. بالتأكيد، كان خروج هذه السيولة إلى السوق سيكون مضبوطاً بوتيرة معيّنة، حددتها التعاميم بسقوف واضحة، لكنّ ذلك لن يمنع الزيادة التدريجية في السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، وبالتالي الزيادة في الطلب على الدولار وسعره.
في ذلك الوقت، قدّر البعض أن هذا الكلام قد ينطوي على مبالغة معيّنة، خصوصاً أن أصحاب الودائع المقوّمة بالدولار الأميركي قد لا يبادرون إلى سحبها بكثافة وفقاً للتعميمين. لكن بعد أكثر من شهر ونصف الشهر على صدور أوّل تعميم، أصبح بإمكاننا العودة للأرقام لإكتشاف حجم الزيادة التي جرت في السيولة المتداولة بالليرة، وبالتالي حجم الأثر على سعر الصرف الفعلي في السوق.
آخر الأرقام الموجودة بحوزة مصرف لبنان حول الكتلة النقديّة تثبت أن حجم السيولة المتداولة بالليرة اللبنانيّة بلغ حدود الـ14.73 مليار دولار في نهاية نيسان/ أبريل، وهو أساساً حجم متضخّم ومنتفخ جدّاً مقارنةً بالفترة المماثلة من العام الماضي، حين كان حجم السيولة المتداولة بالليرة يقل عن نصف هذه القيمة. لكن هذه الأرقام تكشف أيضاً أن حجم السيولة بالليرة ارتفع منذ إصدار التعميم الأوّل وحتّى نهاية الشهر بحدود الـ857 مليون دولار. وبالتأكيد، سيتضمّن شهر أيّار زيادة أكبر بكثير من هذه الزيادة، خصوصاً أن معظم المصارف لم تكن قد باشر تنفيذ التعاميم حتّى منتصف شهر.
إذا نظرنا اليوم إلى هذا الرقم، يمكن الاستنتاج سريعاً أن أثر قرارات مصرف لبنان على سعر الصرف هنا، ومن خلال هذه التعاميم، كان أكبر بكثير من حجم عمليّات الشراء والبيع التي قام بها مدير العمليّات النقديّة الذي تم إيقافه، والتي لم تتخّطَ حدود الـ12 مليار دولار أميركي.
ماذا يريد الحاكم؟
يوم أصدر حاكم مصرف لبنان التعميم 148 منذ فترة قصيرة، لم يكن سعر الصرف الفعلي قد تجاوز مستوى 2900 الليرة مقابل الدولار بعد. تسارع هبوط سعر الصرف منذ ذلك الوقت، مقروناً بانتفاخ السيولة المتداولة بالليرة، يؤكّدان علاقة تعاميم الحاكم بالتدهور في سعر الصرف منذ ذلك الوقت. هنا يُطرح السؤال البدهي، ما هو الدافع؟ هل كان بنيّة التآمر المحض على الحكومة؟ أو أنّ الحاكم امتلك أولويّات أخرى أراد التعامل معها؟
في الواقع، من الواضح أنّ أولى المسائل التي أراد الحاكم معالجتها من خلال هذه التعاميم كان السخط الشعبي على النظام المالي، وضغط هذا السخط على عمل النظام المصرفي في البلاد. وعمليّاً، كان الحاكم يدرك أنّ أكثر من 91 في المئة من المودعين في المصارف يملكون حسابات تقل قيمتها عن 100 ألف دولار، وهي حسابات تمكن تسوية قيمتها تدريجاً وفق التعميمين، وبحسب السقوف الشهريّة المحددة فيها.وبذلك يكون التعميمان محاولة لتخفيف ضغط الغالبيّة من الحسابات المصرفيّة بالعملة الأجنبيّة على النظام المصرفي، وإن كلّف الأمر تدهوراً متوقّعاً سريعاً في سعر صرف الليرة الفعلي في السوق.
من ناحية أخرى، لعلّ أبرز ما يقلق سلامة اليوم على أعتاب التفاوض مع صندوق النقد هو حجم الفجوة الكبيرة في ميزانيّات النظام المصرفي والمصرف المركزي، والتي تتمثّل بشكل رئيسي في الفارق الشاسع بين التزاماتهما وحجم الموجودات المتبقية بالدولار الأميركي. وهنا، ستسمح التعاميم للمصارف بالتخلّص من جزء من هذه الالتزامات، كما سيشطب بالمقابل المصرف المركزي جزءاً مماثلاً من التزامات المصارف عليه بالدولار، بحسب آليّات عمل التعميمين. وبذلك، ستكون هذه العمليّات قد ساهمت في ترشيق ميزانيات المصارف ومصرف لبنان بشكل تدريجي.
يؤكّد ذلك أن خطوات سلامة كانت من الناحية العمليّة خططاً مدروسة لتحسين أمور تتعلّق بميزانيّات القطاع المالي، وإن انطوت على أثر كبير من جهة الوضع النقدي. وبذلك، تكون مشكلة الحكومة الفعليّة مع سلامة هي مشكلة اختلاف أولويّات، وتضارب أهداف نقديّة وماليّة، لا محاولة تواطؤ لتفجير الوضع المعيشي عبر الضغط على سعر الصرف كما حاول دياب الإيحاء في مرحلة من المراحل. وأمام هذا الواقع، نعود مجدداً إلى مشكلة كبيرة تعيق اليوم الجهود القائمة لمحاولة التعامل مع آثار الانهيار، وتكمن تحديداً في تضارب خطط كل من الحكومة والمصرف المركزي. ولذلك، لا بد أن يبدأ أي مسار ناجح للمعالجة من محاولة ردم الهوّة بين الطرفين.
المصدر: CH23