عاد الحديث عن الزراعة. كأننا كنا في حاجة لمن يعيد تذكيرنا بها. ربما كانت غائبة عنا بعدما أصبحنا أولاد مدن يكتفون بالوظائف والعمل المكتبي منتظرين الراتب آخر كل شهر. لكن التذكير شيء، والطلب أن نعود سنوات الى الوراء أمر آخر تماماً.
لسنا نشك في أن اللبنانيين يملكون مساحات واسعة صالحة للزارعة، وأنها لو استثمرت تغطي ثلاثة أضعاف حاجة السوق اللبناني من الفواكه والخضار، وتالياً دخولها في الصناعات الغذائية المحلية بشكل لا نعود مضطرين لاستيراد الكثير منها.
لكن المشكلة لم تكن هنا يوماً. المشكلة هي في التاريخ والسياسة والإقتصاد القائم على الريع لا على الإنتاج. فهل مطلوب منا في هذا الوقت الخطير، أن نعود الى الزراعة لنكتفي؟
يبدو أن ثمة نقاطاً أساسية يجب علينا توضيحها للقارىء، ليكون على بينة ويعرف كيف يتعاطى مع الدعوات الى تنشيط الزراعة الفردية.
أولاً: كلنا نعلم، والتاريخ قريب، أن أهلنا وليس أجدادنا فحسب، كانوا مزارعين. وأن شظف العيش والكدّ لم يكن يكفيهم لسدّ الرمق، فضلاً عن أن التعليم وسواه كانا من أشكال الرفاهية التي لم يقدروا عليها يوماً. هكذا أنجبوا سلاسة من الفلاحين الذين يمضون حياتهم من مشقة الى أخرى. وعندما ضاق بهم الحال أكثر، تركوا الزراعة ونزحوا الى بيروت. عملوا في كل شيء الا في الزراعة، طلقوها الى غير رجعة، أملاً بتأمين مستقبل لائق لأولادهم، إما بتعليم رسمي يقيهم شر العوز، وإما بتعلم صنعة تعينهم على الحياة.
ثانياً: لم تكن الزراعة في تاريخنا الإقتصادي قطاعاً أساسياً، ولو كان كذلك، لكنا شهدنا تعاطياً مختلفاً من قبل الدولة اللبنانية مع الزراعة منذ تأسيسها. لكن إقتصادنا قائم على الريع والتجارة الحرة والخدمات، وليس الصناعة إلا المتواضعة منها والتي لا يمكن إحتسابها ركيزة في مروحة الإنتاج الإقتصادي. نحن لسنا بلداً منتجاً، وهذا دفع بأصحاب الأراضي منذ عشرات السنوات للتخلي عنها عبر بيعها أو إهمالها.
ثالثاً: الإستثمار في الزراعة لا يكفي لسدّ نفقاتها. المزارعون ورغم كل الدعم الذي حصلوا عليه، حالهم الإقتصادية ما زالت على مستواها منذ سنين طويلة.
رابعاً: يتطلب العمل الزراعي دعماً واعترافاً رسمياً به كقطاع منتج، ضمن خطة واضحة تتضمن المساحات القابلة للزراعة وحاجات السوق وحجم التصدير والأسعار وربطها بقطاع الصناعة. وهذا غير موجود بالشكل المطلوب قطعاً.
خامساً: لا يمكن الطلب الى الناس أن يحيوا الزراعة وهم باتوا خارج هذا السياق منذ نحو جيلين كاملين. لا علاقة تربطهم بالأرض ولا بالفلاحة وأدواتها. وهي قطعاً، لا يمكن أن تكون بديلاً مقبولاً لأناس أمضوا حياتهم في العمل وفرض عليهم الإقتطاع من مدخرات عمرهم بالدولار، أو أن تتبخر كلياً عند أصحاب المدخرات المودعة بالليرة في مقابل سعر الصرف في السوق.
سادساً: عندما نطلب من الناس أن يعودوا الى الزراعة، فهذا يعني أننا على بينة من أمرنا لكن الواقع ليس كذلك. الواقع الذي تتم دعوتنا فيه الى أن نعود “فلاحين” سيء، وتعويض من جيوبنا عن تقصير وجريمة اقترفت بحقنا على مدار عقودنا. فساد وسرقة ونهب لتعبنا من قبل جهات معروفة بالأسماء في دولتنا الكريمة.
وإذا كان لا بدّ من الزراعة لنحقق شيئاً من الإكتفاء الذاتي، فتلكن بمبادرات تلزم فيها الدولة أصحاب المليارات بإقامة مشاريع زراعية ضخمة تؤمن العمل للعائلات، وبشرط حصولها على نسبة أرباح منخفضة جداً. أما عكس ذلك، فإن المطلوب منا هو العودة الى العمل بالسخرة عند من أوصلنا الى بؤسنا هذا.
المصدر: خاص “لبنان 24”