السؤالُ المطروحُ الآن: ما الذي طرأ حتّى وُئدَت التحركات الشعبية في الشارع بـ”كبسة زر” واحدة في وقتٍ بلغت الأزمة الإقتصادية السقوف العليا؟
الإجاباتُ المستخدمة للتبرير لدى أصحابِ الشأن تقوم على فكرة “إعادة هيكلة الثورة” على إعتبار أنّ جانباً “ثورياً” عثر على رواسب “إستغلال واضح” للحراك من جانب فئات لا يصرحون عن هويتها ما زاد القصة ضبابيةً، أقله هكذا يقولون. كل ذلك دفعهم إلى التريّث قليلاً والدخول في عملية بحث وتحري وتقصّي حقائق بغية العثور على الرواسب واستئصالها.
ثمّ إنّه، وفقَ أيّ أساس تجري “هيكلة ثورة” أصلاً لم تحقق الحدّ الأدنى من البرنامج الموضوع لها؟ كذلك، كيف تتمُّ إعادة الهيكلة ووفق أية معايير في ظلِّ عدم وضوح القيادة أو الرؤية في آن؟.. أجوبةٌ لا بُد للثورة أو القيّمين عليها من الإجابة عنها.
بخلافِ ذلك، ليس بالضرورة أن يكون ما يجري ترويجه حقيقياً. ثَمة عدّة مشهديات طرأت على الواقع السياسي والميداني في لبنان لها قدرة نفي فرضية “إعادة الهيكلة” المطروحة وأخذ القضية برمتها إلى مكان آخر، لا بل وفي حالةِ التعمقِ أكثر قد تؤدي إلى ربط تجميد التحركات بمعطيات سياسية وأمنية طرأت على المسرح فدفعت إلى إجهاضها.
خلال فترة الأسبوعين الماضيين أي حين طغى “ليل المولوتوف” على أجواء التحركات، دخل عامل على الثورة لم يكن متوفراً من قبل، أصبح إستهداف المصارف وفروعها بصورة مبرمجة وبأساليب مختلفة أمراً شائعاً. توزع الاستهداف على مصارف في طرابلس وصيدا وبيروت وآخر نال جزاءه في الشويفات ولو أن الأضرار أتت محدودة.
وفيما كانت عدسات المصورين غارقة في غرام ألسنة اللهب، كان آخرون يدرسون ويحللون بعمق أسباب إنحراف “الثورة” عن مسارها السلمي المفترض أو عن ما هو مرسوم وانزلاقها نحو تصرفات وتوجهات تخفي بين أضلعها “توجهات يسارية بحتة” أخرى ربما تكون أبعد من ذلك.
أُعيدَ نبشُ إتهامِ تأثُّر بعض المجموعاتِ بنفوذٍ مصدره حزب الله، ذلك أنَّ الحزب يُصنّف “متضرراً” من المصارف. سريعاً رُمي على المجموعات الثورية المُتّهمة بتنفيذِ هجماتٍ على المصارف على أنها تتلقى أوامرها من الضاحية ولديها أجندات، وليس سراً أنّ مصدر الرصد ثمّ الاتهام كان أميركياً بحتاً.
لكنّ ربطَ الاتهام بالحزب لم يعثر على دليلٍ واحد يقوي عوده رغم جهود “مجلس أمن السفارة”، خاصة مع تطور الأمور وانحرافها تجاه ممارسة إعتداءات على وحدات الجيش اللبناني لتصل إلى حدود مهاجمة دوريات كما حدث في البداوي وإلقاء قنبلة على أخرى في طرابلس، ما خالف الطبيعة العامّة من أن حزب الله يمارس قدسية رفيعة بحق الجيش.
لقد طرحَ الدخول “العنيف” وتحطيم واجهات المصارف عدة فرضيات سعى الاميركيون إلى فهمها، وكانت الخشية لديهم تتضامن من إحتمال وجود سيناريو يؤدي إلى ضرب مؤسستَيْن تعتبرهما واشنطن شريكَيْن استراتيجيَيْن في لبنان، أي الجيش والمصرف، لكن المشكلة كمَنت بخلوّ المعلومات الوافية لديها عن الذي يحدث، بفعل أن ما ترتّب عن وقائع تلك الليالي أتى مفاجأة ولم يكن يحسبه أحد.
رغم ذلك، كانت تتوفر لدى الأجهزة الأمنية معطيات عن أن بعض المجموعات المهاجمة قد تكون تتأثر بمصطلحات “العنف الثوري” التي عادةً ما تتبناها منظمات يسارية منتشرة حول العالم، لكنّ التخمين لم يؤدِ ولو لمرة إلى إكتشاف وجود تنسيق منظّم لإحداث فوضى “يسارية الطابع”، بل إن الأمر أظهر لاحقاً أنه أكبر من ذلك بكثير.
ومع تواصل السفارة الاميركية مع الجهات المعنيّة لفهم ما يجري، بدأ يتكوّن لديها إنطباع أوّلي حول وجود “تيارات شيوعية مؤثرة” في تحركات الليل، وأن ما يجري في “الثورة – 2” قد يقلب المشهد وتنزلق التحركات الاحتجاجيّة بإتجاه “عدم القدرة على السيطرة” ما يؤدي لإحداث فوضى شاملة تُخالف النموذج الذي تبتغيه واشنطن من التحركات، أي “إحداث فوضى الحدّ الأدنى المعقول القابل للضبط”، ما يُمكِّن مجموعات شيوعية تؤمن بالعنف الثوري وتكنُّ
العداء العقائدي للولايات المتحدة الأميركية من فرض سطوتها على الشارع وبالتالي جرّه إلى أماكن أخرى.
بموازاة ذلك، أتت زيارة السفيرة الأميركية دوروثي شيا إلى رئيس الحكومة حسان دياب خلال سريان مفاعيل الاحتجاجات العنيفة، وكانت أن طلبت إحاطة من دياب لفهم ما يجري بالضبط والبناء عليه.
في حالة مماثلة، طبيعي أن يمتلك رئيس الحكومة معلومات مصدرها الأجهزة الأمنية تؤدي إلى فهم ما يحصل، وضعها رئيس الحكومة بصورة ما يمتلكه من معلومات، مقدماً إليها أدلة حول ضلوع أطرافٍ “تسعى للفوضى والتخريب” وهؤلاء لا غاية لديهم في التغيير بل هدفهم الاقتصاص وخلق نموذجٍ غير صحي وسليم وهم يختلفون عن الثورة.
على الأرجح أنّ شيا ربطت بين ما سمعته من رئيس الحكومة وبين ما وصل إليها من معطيات حول التحركات. يقول مصدر مسؤول أن “إحاطة دياب” ساهمت على نحوٍ غير مباشر في بلورة البيان الذي خرج ليلاً عن السفارة الاميركية، الذي انتقدت عبره “حوادث العنف والتهديد وتدمير الممتلكات” معتبرةً أنها “مقلقة للغاية ويجب التوقف عنها”، وكان البيان أن أدّى دوراً على ما يبدو مباشراً في إجهاض التحركات في الشارع والمساهمة في تكريس حالة هدوء مطلوبة بالتزامن مع العبور نحو صندوق النقد الدولي.
“ليبانون ديبايت”- عبدالله قمح