بكل بساطة، إنّ مصرف لبنان لم يعد يتدخّل لتثبيت سعر صرف الدولار، لأنّ حجم إحتياطه من العملات الصعبة تقلّص بشكل كبير، وهو لن يُفرّط بما تبقّى منه لتثبيت سعر العملة، ولوّ أنّه تُوجد حاليًا إقتراحات خلف الأبواب المُغلقة، تحثّ على ضرورة إعادة تجربة سياسة تثبيت العملة–ولوّ على سعر مرتفع، ولفترة زمنيّة قصيرة، في محاولة أخيرة لإعادة الإستقرار إلى سعر سوق الصرف قبل تحرير الليرة. لكنّ أكثر من خبير إقتصادي يُجمع أنّ هذا الأمر لم يعد مُمكنًا حاليًا، لأكثر من سبب: بدءًا بفقدان الثقة وُصولاً إلى شحّ السيُولة النقديّة بالدولار، وما بينهما من أسباب عديدة. وبحسب هؤلاء الخُبراء، إنّ حال عدم الإستقرار ستبقى مُسيطرة على الأسواق اللبنانيّة في المُستقبل القريب، قبل أن ترسو الأمور على واقع جديد مُختلف تمامًا عمّا عرفناه في سوق الصرف خلال السنوات الماضية.
وبحسب أكثر من تحليل إقتصادي مُتخصّص، إنّ سعر صرف الدولار الأميركي لدى الصيارفة سيبقى أعلى بفارق كبير من سعر صرفه لدى المصارف، مهما جرى تشديد الإجراءات بحقّهم–إن المُرخّصين منهم أم غير المُرخّصين! والسبب أنّه عندما سيبدأ تطبيق تعميم مصرف لبنان القاضي بالسماح لأصحاب الودائع بالدولار الأميركي، بسحب مبالغ مُحدّدة من حساباتهم، بالليرة اللبنانيّة، سيُشكّل هذا الأمر ضغطًا كبيرًا على الدولار المَفقود من الأسواق. بمعنى آخر، حتى لوّ أنّ المصرف المركزي إشترط بألاّ تتجاوز قيمة هذه السُحوبات الخمسة آلاف دولار أميركي كحدّ أقصى لأصحاب الحسابات الكبيرة،وفي حال كانت قُدرة المصرف المعني تتحمّل ذلك(1)، فإنّ هذه الأموال المَسحوبة بالليرة اللبنانيّة من حسابات بالدولار، لن تذهب كلّها لتمويل عمليّات الشراء والإستهلاك في السوق اللبناني، حيث يُتوقّع أن يذهب قُسم كبير منها لشراء الدولار من جديد، تمهيدًالتخزينه في البيوت–كما كان يحصل من قبل الكثير من المُودعين خلال فترة السماح بسحب بضع آلاف من الدولارات ثم بضع مئات من الدولارات في الشهر الواحد، أي منذ ما بعد 17 تشرين الأوّل حتى تاريخه.
وبحسب الخُبراء أيضًا، كلّما كان سعر الصرف في المصارف قريبًا من سعر الصرف لدى السوق الموازي، سيتشجّع المزيد من الناس لإعادة تحويل ما يسحبونه من أموال بالليرة إلى الدولار الأميركي من جديد، عبر التوجّه إلى الصيارفة، ما يعني عمليًا التسبّب بارتفاع العملة الخضراء من دون أيّ سقف، بناء على مُعادلة العرض والطلب الغنيّة عن التعريف! والمُشكلة أنّه حتى لو جرى تحديد سعر الصرف في المصارف عند حُدود 3000 ليرة لبنانيّة للدولار الواحد مثلاً، في مُقابل سعر صرف يبلغ 4000 ليرة للدولار الواحد لدى السوق الموازي مثلاً، فإنّ الكثير من الأشخاص سيُضحّون بما نسبته 25% أو 30% من أموالهم، عبر المُضيّ بخطوة شراء الدولار، وذلك بهدف تأمين النسبة الباقية من أموالهم بشكل مضمون ومكفول، وبعيدًا عن تقلّبات سعر الصرف!.
تحت خط الفقر!
من هنا، على المسؤولين عن السياسة الماليّة في لبنان حاليًا، التنبّه جيّدًا إلى مخاطر أيّ خطوة غير مُحسوبة النتائج. فإذا كان الكثير من المُودعين قد فقد وظائفه ومداخيله كليًا أم جزئيًا، وهو بحاجة لسحب الأموال من حساباته بالدولار حتى لو بالعملة الوطنيّة،لتوفير مصروفه الشهري وربما قوته اليوميّ، فإنّ الكثير من المُودعين الآخرين ينتظرون هذه الخطوة لمُحاولة سحب أموالهم المَحجوزة لدى المصارف، وبالتالي لإعادة تحويلها إلى الدولار وتخزينها في المنازل، وعندها سيرتفع سعر الدولار مُجدّدًا، وسندخل في دوّامة لا تنتهي من الإنهيار المُتواصل والتدريجي لسعر صرف العملة!.
إشارة إلى أنّ عددًا كبيرًا من اللبنانيّين صار اليوم فقيرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وليس المجازي، بعد إرتفاع نسب البطالة بشكل مُخيف، وبفعل تدهور قيمة العملة وإنعدام القُدرة الشرائيّة، ما يَستوجب وقف هذا المنحى الذي سيُدخل شرائح واسعة من الشعب اللبناني تحت خط الفقر المُدقع! وفي هذا السياق، يبلغ الحدّ الأدنى للأجور في لبنان 675 ألف ليرة في القطاع الخاص، و950 ألف ليرة في القطاع العام(2).وبسعر صرف الدولار الأميركي الحالي في السوق السوداء، يتقاضى الأجير في القطاع الخاص أكثر بقليل من 150 دولارًا أميركيًا، بينما يتقاضى المُوظّف في القطاع العام أكثر بقليل من 200 دولار! والكثير من المُوظّفين والعاملين والأجراء في القطاعين العام والخاص، يكسبون شهريًا مبلغًا بالليرة اللبنانيّة لا تتجاوز قيمته 300 دولار أميركي! وبالتالي، صرنا نتحدّث عن شرائح واسعة من المُجتمع اللبناني تراجع مدخولها بشكل خطير نتيجة التدهور الحاصل في قيمة العملة الوطنيّة، وبفعل غلاء الأسعار وإنهيار القُدرة الشرائيّة لليرة اللبنانيّة. وهذا الدَخل المَحدود لم يعد كافيًا لشراء المأكل والمشرب ومُستلزمات التنظيف والغسيل والإستحمام، إلخ. فكيف بالحري عند إضافة فواتير الكهرباء والمياه والهاتف والبنزين، إلخ. هذا من دون إحتساب أيّ أقساط شهريّة لشراء أو لإستئجار منزل أو سيارة، وأيّ دفعات لأقساط التعليم أو للطبابة وشراء الأدوية أو غيرها!.
من هنا، يجب العمل بسرعة فائقة على البدء بتطبيق الخطة الإقتصاديّة–الماليّة،وتحديد خريطة طريق توقف التدهور المُستمر لقيمة العملة الوطنيّة، عبر حلول جدّية وخطة عمل واضحة، وليس عبر قرارات تستهلك ما تبقّى من مُدخرات للبنانيّين في المصَارف خلال بضعة أشهر، وتتسبّب بارتفاع جنوني إضافي لسعر الصرف!.
(1) سيتم تحديد السقف الأعلى لهذه السحوبات من قبل كل مصرف، تبعًا لميزانيته العامة من جهة، وتبعًا لقيمة الأموال المتوفّرة في حساب كل مودع.
(2) الذي كانت قد طالته بالأمس القريب الزيادات التي أقرّت عبر سلسلة الرتب والرواتب.
المصدر: النشرة