الكلام الكبير عن «تغيير وجه لبنان الاقتصادي الحر» كما تحذر القوى المعادية لـ«حزب الله» في لبنان، بات ممجوجاً، وينمّ عن انعدام المخيّلة السياسية والإعلامية لقائليه، واتكالهم الكسول على خطاب التخويف وشحن الذعر على أنه أداة سياسية لا أكثر.
لا أحد من القائلين بذلك يفصّل ما يعنيه بتغيير وجه لبنان. تغييره بأي اتجاه ووفق أي منظومة قيم أو قواعد عمل؟
عدم وجود إجابة ليس صدفة. هو نتيجة منطقية لطبيعة السؤال الخاطئة. بالنظر إلى الورقة الاقتصادية التي قدمتها حكومة الرئيس حسان دياب؛ يعثر المرء على كل ما يؤكد التزام الحكومة بالاقتصاد الحرّ. الورقة بهذا المعنى امتداد موضوعي للحريرية السياسية؛ نهجاً اقتصادياً يقوم على فكرة تمويل الاقتصاد بالاستدانة والتوظيف في البنية التحتية وخلق وظائف وجذب رساميل استثمارية، وقد زِيد عليها مؤخراً قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص. ورقة الحكومة تذكر صندوق النقد الدولي ومؤتمر «سيدر» الاستثماري عشرات المرات بوصفهما المرجعيات العملية التطبيقية لسياسة الحكومة الاقتصادية.
فأين بالضبط عثر أصحاب التخويف على مؤامرة «تغيير وجه لبنان الاقتصادي الحر»؟
الأخطر من هذه التهمة السمجة، هو أن حسان دياب الذي يرأس حكومة الشراكة بين «حزب الله» وتيار رئيس الجمهورية ميشال عون، ملحقاً بهما على مضض الرئيس نبيه بري والوزير سليمان فرنجية وبعض الشخصيات المستقلة المحترمة، ينتحل صفة وجه لبنان وما ينبغي أن يكونه هذا الوجه.
منذ البداية يتذاكى دياب على اللبنانيين. تذاكى بأنه يشكل حكومة مستقلين أكفاء سيعمل معهم على استعادة ملامح لبنان الحقيقي وليس تغييرها. ومنذ البداية بدت ولادة الحكومة وقد خرجت من قبّعة القوى السياسية نفسها التي يقود معسكرها «حزب الله». الوزير سليمان فرنجية فضح هذا الادعاء بأعلى درجات الشفافية حين خرج في مؤتمر صحافي قال فيه إن الحكومة يشكلها صهر العهد الرئاسي جبران باسيل.
وحتى الرهان على قدرة المستقلين في الحكومة على إحداث أي فارق جدّي في الأداء السياسي سرعان ما سقط. يكفي النظر إلى التشكيلات القضائية التي كان يمكن أن تعطي إشارة لتطور إيجابي في التعامل مع مواقع الشأن العام؛ وإذ بها مجمّدة في أدراج رئاسة الجمهورية بانتظار إخراجها، كما كانت تخرج في العادة، على قواعد المحاصصة واستتباع القضاء لهيمنة السلطة السياسية.
مع ذلك؛ يستمر الرئيس دياب في التذاكي الأخطر، وهو أنه الوجه النضر للبنان الذي يكافح الفساد، ولبنان الذي يطمح لبناء اقتصاد متناغم مع قواعد النظام الدولي، ولبنان الذي يحلم به جيل أبناء «ثورة 17 تشرين».
يتذاكى حسان دياب على الثورة بمحاولة إيهامها بأنه رئيس الحكومة التي تريدها، وبأنه الشخص الذي أتى ليحل مكان النخبة السياسية القديمة، متعامياً بالكامل وداعياً الجميع إلى التعامي، عن حقيقة ساطعة؛ هي أن هذه الحكومة هي حكومة «حزب الله» – ميشال عون. حكومة يسعى حسن نصر الله وجبران باسيل لتمتين عودها كلما دعت الحاجة، ورئيس حكومة ينشد له منشد الحزب كلاماً ولحناً ما قيل في غيره.
ويتذاكى حسان دياب بخطاب مكافحة الفساد متعامياً بالكامل وداعياً الجميع إلى التعامي، عن حقيقة ساطعة، وهي أن متورطين في بعض الفساد من التهرب الجمركي، والمعابر غير الشرعية، والكهرباء، وملف النفط، أعضاء في الحكومة الحالية، بل قيّمون عليها وعلى قرارها، في الكبيرة والصغيرة.
هكذا يصبح خطاب الفساد كلام حق يراد به باطل، أو في الحد الأدنى أداة بيد فاسدين لتصفية حسابات سياسية مع فاسدين آخرين، بصرف النظر عن مصالح اللبنانيين الفعلية والمباشرة. وما حسان دياب في هذه المعادلة إلى الأداة التي يمرّ عبرها سلوك الكيدية وتصفية الحسابات.
ويتذاكى حسان دياب في الملف الاقتصادي، فيخاطب المجتمَعين الدولي والعربي من منصة الدولة الرشيدة، والحكومة العاقلة التي تعرف كيف يعمل العالم. يتوجه إلى صندوق النقد الدولي بخطاب إصلاحات، وإلى الدول العربية مراهناً على تدخلها الاقتصادي الحميد لصالح لبنان، ويغازل أوروبا من بوابة «مؤتمر سيدر الاستثماري»، حتى تشعر أن لبنان فعلاً على أبواب صفحة جديدة تفتح في تاريخه. يقول الرجل جلّ ما ينبغي أن يقال في لحظات مماثلة. يحاول انتقاء العبارات الدقيقة، ويسعى للتعبير عن التوجهات المُثلَى، ويرمي الوعود المغرية لكل من يريد أن يسمع. كل ذلك وهو يرأس حكومة «حزب الله»، الذي لا يعرف سبيلاً لوضع لبنان موضع الشبهة الدولية إلا سلكه، وما ترك حائط عمار مع العالم العربي إلا هدمه.
يتناسى حسان دياب ذلك ليس من باب التآمر فقط. فهو يملك من الأنا المتضخمة ما يجعله يعتقد بصدق أنه قادر على أن يلعب على كل التناقضات، لتمرير ما يعدّه مشروعه الإصلاحي والإنقاذي.
يعتقد أنه قادر على الاحتيال على الثورة و«حزب الله» وصندوق النقد وخصومه السياسيين والمجتمع الدولي، للوصول إلى مبتغاه: الرئيس المنقذ الذي أخرج لبنان من محنته!
يتسلح دياب بأن حكومته حاجة للجميع وأن سقوطها يعني عدم القدرة على تشكيل حكومة أخرى في المدى المنظور، وأنه بسبب من هذه الحاجة قادر على الاستثمار في التناقضات. في ذهنه أنه يضرب بعضاً من أركان النخبة القديمة «بري – الحريري – جنبلاط» ويحتال على النخبة الأحدث «عون – (حزب الله)» لتمرير ما يريد تمريره وحجز مقعد له في مستقبل لبنان السياسي.
قوة حسان دياب في أَنَاه المنتفخة التي تدفعه للتفكير خارج الأطر التقليدية للتفكير في السياسة في لبنان من دون أن يتوقف للحظة عند مخاطر ما يفكر فيه أو يقدم عليه، ومن دون أن ينتبه إلى الحدود بين ما هو قراره وما هو قرار من أتى به ويحميه ويواكبه.
كفى تذاكياً.
المصدر: الشرق الأوسط