شاء رئيس الحكومة حسّان دياب الدخول في حرب علنيّة على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في وقت تفرض الظروف الحاليّة إتخاذ اجراءات أساسيّة وعملية لوقف تدهور الليرة اللبنانية أمام الدولار. ضمنياً، فإنّ المعركة التي أعلنها دياب جديدة في نوعها، إذ لا يمكنُ أن يكون رئيس حكومة على حربٍ مع حاكم مصرف مركزي للدولة، وهذا إن دلّ على شيء، إنّما يدلّ على نهج جديد بدأه دياب، ويفتح الباب أمام تغيير كل المنظومة الماليّة القائمة منذ اتفاق الطائف في العام 1989 وحتى اليوم.
فعندما يتحدّث دياب عن أن “الدولة ستضرب بحزم”، فإنّ هذا الإقرار بالقوّة يجب أن يكون مستنداً إلى ضمانات للقيام بذلك، والكل يعلم ماهيّة النظام في لبنان، والجميع يدري كيف تسير الأمور السياسية، ولم تنجح أي محاولة سابقة في محاسبة أي طرف على ارتكابات سياسية أو ماليّة. فعلى ماذا يستند دياب في معركته؟ وعلى ماذا يبني فرضية المحاسبة التي يريدُ السّير بها؟ في الواقع، فإن دياب أقحم نفسه في معركةٍ كبيرة بكلّ المقاييس، وقد يصل إلى تكريس إنقلابٍ على من أتى به إلى رئاسة الحكومة من دون أن يعلم، خصوصاً من باب حاكميّة مصرف لبنان. فعندما يريدُ دياب إجراء التحقيق ومحاسبة المسؤولين والمرتكبين في ملفات الهدر المالي وسرقة المال العام واستعادة الأموال المنهوبة، فإنّ الجهات السياسية التي تدعمه والأخرى التي تخاصمه ستكون هي المرتكبة. فهل سيجرؤ دياب على محاسبتها؟ هل سيجرؤ في حال تمت على سبيل المثال إحالة ملف هدر الكهرباء ضمن حسابات مصرف لبنان إلى التحقيق الدولي، على محاسبة وزراء التيار الوطني الحر الذين تعاقبوا على وزارة الطاقة خلال السنوات الـ10 الأخيرة؟
لا يخفى على أحد أنّ سلامة كان وما زال شريكاً مع الأفرقاء السياسيين في كلّ الشؤون الماليّة للدولة، وكان معهم في تغطية الصفقات. وفي حال استطاع دياب محاسبة سلامة فعلاً وانتزاع حاكمية مصرف لبنان منه، فإنّ المحاسبة يجب أن تطال الجميع من المرتكبين في ملفات الهدر الكبرى. ولذلك، فإن كان إعلان دياب الحرب على سلامة هو مناورة، فإنّها ستكون خاسرة بالدرجة الأولى أمام الناس، ويكون قد غازل الطبقة السياسية بالكامل، ويمكن اعتبار ذلك صفقة على حساب اللبنانيين. أما إذا كان دياب جدياً في معركته، فعليه الإستمرار بها حتى النهاية، وتسليم كل الأشخاص المرتكبين إلى العدالة. ولكن هل هذا سيحصل؟ في لبنان الأمر هذا لن يكون طالما الطبقة السياسية الحاليّة موجودة، وفي حال تحقق ما يريده دياب، فإنّ القضاء يجب أن يكون مستقلاً في بادئ الأمر، وأن تتحقق العدالة لصالح اللبنانيين في سجن كل المتواطئين لنهب المال العام. أما الأمر المهم الذي يطرح نفسه هو في قدرة دياب على ضبط حكومته وتوحيد القرار فيها، خصوصاً أن وزير المال غازي وزني أبدى اعتراضاً على إقالة سلامة في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة. وما يشاع عن تجانس في هذه الحكومة هو أمر يجب إعادة النظر فيه بشكل كبير، ورئيس الوزراء القوي يفرض نفسه على فريقه وليس العكس، وتحديداً عندما يتعلّق الأمر بملف وطني. ولو كان ذلك موجوداً لما كان عدد من الوزراء قدموا استقالاتهم من الحكومة قبل الجلسة الأخيرة، وكادت الحكومة تسقط في لحظة حرجة، بسبب مسودة “تدابير آنية وفورية لمكافحة الفساد وإستعادة الأموال المنهوبة”، إطلع رئيس مجلس النواب نبيه بري عليها واشتعل غضبه. وعندها، طلب من وزيري المال غازي وزني والزراعة عباس مرتضى أن يقدما إستقالتيهما من الحكومة، باعتبار أن هذه الورقة تتضمن بنوداً تسلب وزير المال صلاحياته. وبعد مشاورات جرى تعديل وهدأت الأجواء وجرى سحب الاستقالات.
سياسياً، فقد وصلت العديد من الرسائل بشأن الازمة القائمة، أبرزها على خطّ السفارة الأميركية في لبنان عبر السفيرة دوروثي شيا. تقول المصادر السياسية المتابعة لجولة شيا الاخيرة على العديد من الاطراف السياسيين لـ”لبنان24″ أنّ “فحوى هذه الرسائل يؤكد على إصرارٍ أميركي بالتضييق على “حزب الله” مالياً واقتصادياً”، مشيرة إلى أنّ “سلامة يمكنه التحكّم بالسياسة المالية ضد “حزب الله”. ومع هذا، فإنّ الحديث عن بديل جدّي لسلامة في الوقت الحاضر غير دقيق بشكل كافٍ، وما حُكي عن أسماء في الآونة الأخيرة كله يندرج في إطار “هزّ العصا” بإتجاه حاكمية مصرف لبنان. ورغم أنّ حركة “أمل” لم تؤيد ولم ترفض إقالة سلامة، فإنّ ما كشفته المعلومات يشير إلى أن “الرئيس نبيه برّي أعطى فترة سماح بشأن تسوية الأوضاع”.
وتضيف المصادر لـ”لبنان24″: “الفترة هذه غير مفتوحة، وبرّي لا يريد إستثارة تيار المستقبل والحزب التقدمي الإشتراكي حالياً بشأن موضوع سلامة. ولذلك، فإن الفرصة مطروحة حالياً لحاكم مصرف لبنان في الوقت الحاضر لاتخاذ خطوات واضحة لتأمين الإستقرار، مع العلم أن الفرصة ليست كبيرة، وبعدها سيكون هناك حديث آخر”.
إلى ذلك، تشير مصادر سياسية مقرّبة من “حزب الله” لـ”لبنان24″ إلى أنّ “الحزب لن يسمح بسقوط حكومة حسّان دياب، وإذا كان الخيار بين سلامة ودياب، فالأكيد سيتم اختيار الأخير”، مؤكدة أن “حزب الله لن يسمح للدولار بالتحكم بمصير الحكومة، باعتبار أن مجلس الوزراء الحالي هو الأفضل في هذه المرحلة”. وعن السيناريو الذي يشير إلى أن ما يحصل هو لتمهيد عودة الرئيس سعد الحريري على “الحصان الأبيض” لرئاسة الحكومة من بوابة اقتراح حلول للأزمة والمساهمة في تخفيض سعر الصرف، تقول المصادر: “ما أخذه الحريري بعد استقالته من الحكومة الأخيرة من قبل حزب الله لن يراه أبداً بعد ذلك. لقد حصل على طروحات لم يكن يحلم بها، ولكنه رفض واختار الإبتعاد، وليكن ذلك”.
الدولار إلى أين؟
وحتى الآن، فإنّ الثابتة الوحيدة هي أنّ الدولار لن يعود إلى سابق عهده (1505 ل.ل) في ظل هذه المنظومة القائمة؛ لكن الأمر الأخطر من ذلك هو أنّ سعر الصرف مرشّح للإرتفاع كثيراً خلال المرحلة المقبلة، في حال لم يتم ضبط سوق القطع بشكل بارز، ما يعني أن الإنهيار الكامل آتٍ من دون أي منازع. في غضون ذلك، تستمرّ اللعبة التي تديرها المصارف مع الصرافين بمباركة من مصرف لبنان، والسعي الأكبر اليوم هو لتعويض العملات الصعبة، إذ كشفت المعطيات أن هناك تدهوراً بارزاً في احتياطي هذه العملات، وما تعاميم المصرف المركزي الأخيرة إلا دليل على ذلك، إذ يهدف سلامة إلى جمع ما يمكن من دولار. المعلومات تشير إلى أنّ “أموال الـ5.7 مليار دولار التي تحدّث عنها دياب في كلمته الأخيرة من بعبدا، تعود لبعض أصحاب رؤوس الأموال، من بينهم لبنانيون وأجانب، وقد خرجت من لبنان على دفعات”. ومع هذا، فقد لفت المصادر إلى أنّ “ما حصل كان بعلمٍ من سلامة مباشرة، وهذه الإيداعات كانت موجودة في العديد من المصارف الكبرى في لبنان، في حين أن التحاويل المرتبطة بها موجودة وموثقة لدى حاكمية المصرف المركزي”. أمّا على صعيد الدولار، فإنّ أغلب الخبراء يجمعون على أنّ سعر الصرف سيبقى متدهوراً لفترة غير قصيرة، وسيبقى يتصاعد تدريجياً، ليتجاوز الـ5000 و 6000 ل.ل في حال لم يتم اتخاذ خطوات جديّة لمدّ السوق بالدولار من قبل مصرف لبنان.
ومع هذا، يقول الخبير الإقتصادي باتريك مارديني لـ”لبنان24″ إن “ما يساهم في تدهور قيمة العملة الوطنية، هو زيادة الكتلة النقديّة بالليرة اللبنانية مقابل تخفيض الكتلة النقدية بالدولار”، معتبراً أن “إتجاه الحكومة ومصرف لبنان إلى لبننة الإقتصاد اللبناني هو سياسة غير صائبة، لأن لبنان لا يمكن أن يكون من دون دولار، كما أن كل الحاجيات التي نستوردها من الخارج هي بالدولار، كما أن الشعب اللبناني لم يعد لديه أي ثقة بالليرة اللبنانية”.
الحل في إلغاء مصرف لبنان.. ما البديل؟
وفي ظلّ هذه المعركة الكبيرة، فإنّ التخوّف الأكبر في أنّ يكون الهدف من إقالة سلامة هو طرح آخر لحاكمية مصرف لبنان من الجهة السياسية المناوئة لتلك التي تدعم الحاكم الحالي. وبذلك، فإنّنا سنبقى في نفس المربّع الذي يعيق تقدّم السياسة المالية، ويكون الأمر بعيداً كل البعد عن أي إصلاحات. وإزاء ذلك، فإنه يترتب على الدولة اللبنانية لحل مشكلة السيولة ودعم الليرة اللبنانية، إنشاء مجلس نقد مقابل إلغاء مصرف لبنان، باعتبار أن مجلس النقد يساهم في ضبط سعر الصرف وفق المعادلة التالية: كل دولار يقابله 1500 ل.ل (السعر الرسمي)، وكلّما ارتفع الإحتياطي من العملات الصعبة كلّما زادت قيمة الليرة، والخطأ الأكبر هو طبع الليرة اللبنانية بشكل كبير وإغراق السوق بها مقابل شحّ الدولار، وهذا ما يحصل حالياً، خصوصاً عبر المصارف. ومع هذا، فإنّ مجلس النقد يساهم إلى حدّ كبير في جذب الإستثمارات، لأنه يعمل على ضبط سوق القطع بشكل كبير ويحافظ على الدولار داخل البلد، كما أنه يسمح للمستثمرين بوضع الأموال في لبنان وضمن المصارف. ويكون ذلك من خلال السماح لأي مستثمر يملك دولارات بإيداع أمواله في لبنان لدى مجلس النقد، وإعطائه مقابلها ليرة لبنانية لإيداعها في المصارف، باعتبار أن مجلس النقد يعمل على تثبيت العملة الوطنية. وبذلك، تعود الثقة إلى الليرة، ويكون لبنان قد استقطب دولاراً إليه. أما الأهم في هذا الأمر، فهو أنّ مجلس النقد لا يديّن الدولة كما مصرف لبنان، وبذلك، تبقى دولارات المستثمرين محفوظة، وحينما يطالبون بها تكون موجودة، وبالتالي يمكنهم استردادها، وهذا ما يعيد الثقة إلى القطاع المصرفي من جديد.
المصدر: محمد الجنون | لبنان 24