بين عامي 1992 و2020، أكثر من ربع قرن على الوهم الكبير، الذي أطلقوا عليه تسميةً “الإستقرار النقدي”. مصطلحٌ فيه من السيادة ما يحاكي النزعة الوطنية، دأبوا على استخدامه كجرعات تطمينيّة كلما دعت الحاجة، يترجمونه للعامة من الشعب، بعبارة هي الأشهر في قاموسنا، أتذكرونها ؟ ” الليرة بخير”!
بصرف النظر عن المسؤولية عن الإطاحة بالثبات النقدي، سواء أكانت السياسات المالية الحكومية أو المصرفية، النتيجة واحدة. ومن عاصر عام 1992 يدرك حجم الكارثة، بحيث لامس سعر صرف الدولار عتبة الثلاثة آلاف ليرة، وخسر الموظّفون قيمة أجورهم وكذلك المودعون، أمّا المصارف فتواطأت في مضاربات على سعر صرف الليرة وراكمت الثروات. السيناريو نفسه يتكرر اليوم، وإن بنسخةٍ أشدّ قساوة، بالتزامن مع دين عام تجاوز 90 مليار دولار، ومع أزمتين مالية وإقتصادية، أُضيفت لهما أزمة كورونا. آنذاك، لم يكن لبنان متروكًا عربيًا وتحديدًا خليجيًا، بحيث أنّ المكّون “اللبناني الإيراني” لم يكن فاعلًا في الحياة السياسية في ذاك الحين، أمّا اليوم فبات في صلب المنظومة الحاكمة، وإن لا يتحمل وحده مسؤولية ما وصلنا إليه. أمّا الحكومة التي شكّلها مع حلفائه من إختصاصيين مقنّعين، فتسير على خطى السلحفاة في وضع الخطّة الإنقاذية الموعودة، متجاهلةً أنّ في أدراجها خطّتين، واحدة لماكينزي دفعنا لمعدّيها أثمانًا باهضة، والثانية للحكومة السابقة في آخر أيامها.
منذ أيام سرّبت حكومتنا مسودة خطّتها، ثمّ سرعان ما تبرّأت من بعض بنودها لاسيّما Haircut. ومن الأفكار التي تضمّنتها الخطّة، تحريرٌ تدريجي لسعر صرف الليرة مقابل الدولار. هذا “التحرير” بات أمرًا واقعًا، بعدما أضحى دولار مصرف لبنان وفق السعر الرسمي مفقودًا، ولعّل التعاميم الأخيرة التي أصدرها المصرف المركزي، تحمل في طياتها اعترافًا منه بأنّ سعر الصرف الرسمي ولّى. قبل أشهر اعتبر مدير الفريق السيادي في وكالة “فيتش” للتصنيفات الإئتمانية توبي ايلز، إنّ “تغيير ربط العملة اللبنانية بالدولار سيكون خطوة مؤلمة، إذا تحرر سعر صرف الليرة، فلن يكون هناك حدود لارتفاعه أو لتراجعه”. السؤال المطروح، بعدما بات الحفاظ على ثبات الليرة مستحيلًا، أيّ تداعيات لتحرير سعر الصرف ؟ وما هي خطّة الحكومة حيال الليرة ؟
البروفسور مارون خاطر، أستاذ محاضر وباحث في الشؤون المالية والإقتصادية، يقرأ الشقّ المتعلق ببند تحرير سعر الصرف، كما ورد في المسودة المسَّربة للخطة الإصلاحية الموعودة “وهو عبارة عن تحرير جزئي لسعر الصرف، يمتدّ حتى العام ٢٠٢٤. تترافق هذه الخطوة مع زيادة سنويَّة في النمو تصل إلى ٢%، وتراجع بنسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الاجمالي إلى ١٠٣٫١% بحلول عام ٢٠٢٤، وإلى ٩٠٫٢٪ بحلول عام ٢٠٢٧. تتوقّع الخطة إنعكاسات إيجابية لهذه الخطوة على الإقتصاد من ناحية تحفيز العجلة الإقتصادية وتخفيض الإستيراد، مما سيؤدّي إلى تقليص عجز الموازنة من ٧٫٢% من الناتج الاقتصادي إلى ١٫٣% بحلول عام ٢٠٢٤”.
خاطر وفي حديث لـ “لبنان 24” يرى أنّ لتحرير الليرة في الوقت الراهن، وبخاصة التحرير الجزئي، تداعيات كارثية على الإقتصاد وعلى القيمة النقديّة لليرة. “فالتحرير الجزئي والمجَدول سيجعل من سوق العرض والطلب سوقاً حصريةً للطلب، الأمر الذي سيرفع سعر الصرف إلى مستويات جنونية لا يمكن التكهّن بمداها. وسينتج عن ذلك تضخّم مفرط Hyperinflation من شأنه أن يُودي بالقيمة الشرائية إلى الحضيض. أضف إلى ذلك، أنّ غياب سياسات مالية مبنية على أسس ثابتة، سيجعل من أيّ سياسة نقدية أداةً تعويمية لخسائر الإقتصاد، التي ستصبح مستمرَّة”.
بالمقابل هناك أراء لطالما نادت بفك ربط الليرة بالدولار، ولكن للتوقيت حكمه في هذا الطرح، بحيث يوضح خاطر “أنّ النظريات الإقتصادية تشدّد على أهمية تحرير سعر الصرف وانعكاساته الإيجابية على الإقتصادات المتعافية. فهي الطريقة الأمثل لإختبار صوابية سياستها النقدية عبر الإحتكام إلى سوق العرض والطلب. من ناحية أخرى تؤكّد هذه النظريات على أنّ تحرير سعر الصرف ليس مطلقاً، إذ تركّز على أهميَّة دور المصرف المركزي وجهوزيته للتدخّل المباشر لحماية العملة المحليَّة”. استنادًا إلى المعطيات والمؤشرات المحلية، يستنتج خاطر أنّ النموذج اللبناني لا يستوفي أياً من هذين الشرطين. “كون الإقتصاد اللبناني في أزمةٍ مزمنةٍ وخطيرة، والمصرف المركزي غير قادر على التدخّل، بعد إستنفاذ احتياطاته بالعملات الصعبة”.
بأيّ حال، تحرير سعر الصرف لا يمكن أن يُبحث وحده، بمعزل عن خطّة متكاملة، مرتكزها وفق مقاربة خاطر “إستعادة الثقة، بدءًا بتأليف مجالس الإدارة والهيئات الناظمة، كإشارة إيجابية للمانحين، تمهِّد الطريق لطلب مساعدات خارجية. ليكون التركيز في مرحلةٍ لاحقة على خطةٍ إقتصاديةٍ تنهض بالإقتصاد، وتترافق مع إطلاق ورشةٍ إصلاحية قانونية تحفيزيّة للقطاعات كافة. ومن ثمّ تُستكمل بالمباشرة بعملية تدقيق وطنيّة شاملة، تحضيراً لإصلاحات جذرية تشمل القطاع العام برمته. أمّا على المستوى الإستراتيجي فالحلُّ يتمثّل ببناء استراتيجيات وطنية ترتكز على أسس جودة الأداء المؤسسي Institutional quality التي تبدأ بالإستقرارالسياسي ولا تنتهي بمكافحة الفساد”.
الليرة لم تعد بخير، ولا نحن أبناء الوطن بخير، وقد بُتنا نحيا كابوسًا، يفتك بيومياتنا، ويهدّد حاضرنا ومستقبلنا، خصوصًا وأنّنا نستفيق على طروحاتهم “الإصلاحية” التي تُبدع في تدفيعنا ثمن فسادهم، بضرائب من هنا، ومصادرة جنى العمر من هناك، بالمقابل تبقى ملفات هدرهم وإفسادهم، كالتهريب وتعدّيات الأملاك البحرية والنهرية وغيرها الكثير، خارج أزمنة الإصلاح.
المصدر: لبنان 24