يُغرق بهاء الحريري نفسه في دوامة من التناقضات أو المواقف المتناقضة، ما يلبث أن يتراجع عنها. ففي البقاع مثلاً كان قد نقل عنه قوله خلال اجتماعه بوفود شعبية أنه “لن يكون في الطائفة السنية إلا قطب واحد، وعندما أكون موجوداً فممنوع على غيري أن يكون موجوداً”، سرعان ما عاد مكتبه الإعلامي لنفي الواقعة بعد ساعات من شيوعها، وما لبث أن جدّد حاضرون في الجلسة صحة القضية. هذه الموقف من مشروع “الوريث” متوقعة في أعقاب زيارة يعتبرها ناجحة إلى الشمال وعكار حيث أطلق من هناك مكنوناته السياسية تجاه شقيقه، سعد الحريري، واصفاً نفسه أمام من زاره بأنه “الوريث الشرعي للحريرية السياسية ولن يقف أحد في طريقه”. كلام تسبّب باستياء عارم، كالإستياء نفسه الذي تسبّب به في البقاع حيث ينشر غسيله وشقيقه على الملأ.
تقلّبات وتموّجات بهاء الحريري وعدم رسوّه على بر، تثبت مقولة شقيقه سعد، رئيس تيار “المستقبل”، الذي سبق أن عمّم على فريقه في بيروت “عدم التشويش” على زيارة شقيقه، ببساطة لأن الأخير كفيل بإفشال زيارته وجولته بنفسه من دون تدخل من “التيار الأزرق”.
التمهيد لعودة سعد الحريري
كان قد سبق زيارة بهاء الحريري بشهور “مشروع عمل” بقيِ صامتاً، يجري في بيروت وبعض المدن ذات التواجد السني الثقيل يتولاه من يسمون أنفسهم “أصدقاء (أو أنصار) الرئيس سعد الحريري”.
في العاصمة بيروت، تنشط شخصيات وجمعيات ومنها جمعية “بيروت للتنمية” من أجل استنهاض “الحالة الحريرية”. ولا ريب إن قلنا أن هذه الحالة، وإن تعرضت في العاصمة لنكسات، لكنها لم تسقط وما تزال تحافظ على حضور أو تأثير وازن، يستفاد منه الآن من أجل رفع قيمة الحضور.
في مناطق الأطراف، وإن خفّ تأثير سعد الحريري وتياره،لكن ما تزال فرق معينة تحفظ له مودة، بدليل الشعارات التي ووكب بها شقيقه بهاء الحريري. المراد من النشاط إذاً، تمهيد الأرضية لعودة سعد الحريري المتوقعة، من خلال تحصين موقفه وإعادة الإستثمار في الساحة، وإجراء “هندسة” على المواقف السياسية، والقيام بإعادة تموضع تتيح إطلاق “نسخة مطوّرة” من سعد الحريري. وحيث أنه لا بد من مناسبة لعودة “الشيخ سعد”، يضع هؤلاء في بالهم أن عام 2026 سيتكلّل بتلك العودة نهائياً، في انتظار أن يخوض تيار “المستقبل” الإستحقاق الإنتخابي المقبل في ذلك العام وأن يحقّق نتائج، وسوف تكون المشاركة “حريرية بامتياز أو من جو سعد الحريري”، بمعزل عن إسم وهوية تيّار “المستقبل”، وفقاً لما يؤكده مصدر بيروتي. بناء على هذه النتائج، ستتشكل العودة النهائية لسعد الحريري، التي لا بد أن تسبقها “رجعة” أو “رجعات” سوف تتبلور ملامحها تباعاً خلال الفترة المقبلة، مع بدء تعافيه من العارض الصحي الذي ألمّ به منذ فترة، إذ تشير تقارير الأطباء المعاينين له، وفق أحدث التقارير التي اطلع عليها “ليبانون ديبايت”، أن حالته ماثلة إلى الشفاء تدريجياً وأنه منكبّ في هذا الوقت على برنامج جسدي ورياضي يحسِّن من أدائه.
أحمد الحريري “يُهندِس” تموضع “المستقبل”
يبقى الأداء السياسي الذي بات محصوراً اليوم بأبن عمته أمين عام تيار “المستقبل” أحمد الحريري، الذي يبدو أنه ينفّذ قراراً بإعادة استنهاض تيار “المستقبل” ضمن البيئات وفي المدن والأطراف. ليس ذلك محصوراً في الجولات التي يقوم بها، إنما في اللقاءات والنشاطات ذات البعد السياسي ـ الإجتماعي التي حرص ويحرص على المشاركة فيها هذه الفترة.
وفيما يبدو عليه أن الأمين العام ينفذ ما يشبه “أجندة” ترتقي إلى مستوى إصلاح علاقات تيار “المستقبل”والتمهيد لإعادة تموضعه السياسي أو ظهوره السياسي بملامح مختلفة، يبدو “الشيخ أحمد” مهتماً بتحسين العلاقات ضمن الحيز الإسلامي السني، وأيضاً مع “الثنائي الشيعي” مستفيداً من الحالة التي أسس لها “طوفان الأقصى” والإحتضان الإسلامي العام السني ـ الشيعي، وذوبان الخطابات المتشنجة بين الطرفين. تأسيساً، لا يمكن عزل مشاركة الحريري في تقبّل العزاء بوفاة والدة الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصرالله قبل فترة، وإن أتت على شكل “ردّ إجر” للحزب بعد مشاركة وفد منه بتوجيه من السيد حسن نصرالله في تأبين والد الحريري في صيدا، عن السياق العام الذي يطمح إليه “المستقبل”. فالمشاركة حملت شكلاً سياسياً أخذ في طريقته كل التراكمات التي أسّس لها قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومفاعيل قرارها باتهام عناصر من “حزب الله” باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بشكل أعطى تصوراً كأن تيار “المستقبل”، أو عائلة الحريري بشكلٍ خاص، تجاوزت الموضوع أو أنها غير مقتنعة تماماً بقرار المحكمة. ولا بد من أن تيار “المستقبل” وصل إلى قناعة بضرورة إصلاح علاقاته، لا سيما ضمن الشق الشيعي مع “حزب الله” والبدء بنسج علاقات تمهِّد لعودة الحريري السياسية. وليس سراً أن دوائر “المستقبل” في بيروت،وإن عادت لمزاولة نشاطها السياسي أخيراً ولو بطريقة خفيفة، إلا أنه يصلها أجواء ومعلومات من جماعات سياسية معينة تعطي انطباعاً أنها مستعدة لاحتضان سعد الحريري متى عاد إلى مزاولة عمله السياسي.
في الشقّ نفسه، وفي ظل حالة “المدّ السني العارم” في لبنان المتأتية عن نتائج ومفاعيل “طوفان الأقصى”، وتغيّر النظرة العامة تجاه الحزب، لا يرغب الحريري أو تيار “المستقبل” بشكل عام بالبقاء على الحياد أو بعيدين عن المتغيرات التي تعصف في المشهد. وفي المجال السني الداخلي لا يرغب سعد الحريري على وجه الخصوص في مشاهدة أسهم الإخوان المسلمين (أو الحالة الإسلامية – الجماعة الإسلامية) ترتفع على حسابه أو حساب تياره، فيما ينظر آخرون من أنصار الحريري إلى تمدّد الجماعة الإسلامية (أو غيرها من التنظيمات الإسلامية) بوصفها حالة تخلق مبرراً كافياً لعودة سعد الحريري، وأنه قرن عودته (حينما أتى إلى بيروت للمشاركة في إحياء ذكرى إغتيال والده) باحتمال تدخله في حال ملامسته ميل السنة نحو التطرف”.
العودة من موسكو
قبل ذلك، ثمة ترتيبات سياسية لا بد منها من أجل جعل هذه العودة قائمة أو متوفرة، أولها توفير ظروفها السياسية، وهذا يأتي من خلال إقناع المملكة العربية السعودية، أو عملياً الأمير محمد بن سلمان، بترك سعد الحريري وشأنه. وليس سراً أن هذه المسألة تتولى دوائر معينة، من بينها تلك الروسية الخوض فيها، وهذا يأتي مرتبطاً مع ما يشاع في بيروت منذ فترة حول وجود دور روسي ثقيل لـ”معالجة وضع سعد الحريري”، يتولى جزء منه مستشار الحريري للشؤون الروسية جورج شعبان، الذي ينقل عنه معلومات بأن المسار “ماشي”. ما يمكن فهمه الآن، أن أي عودة محتملة لسعد الحريري إلى بيروت، لا بد أن تمرّ من عاصمة سوف تشكل لاحقاً مرجعية له. وفي هذه الحالة لا بد من أن تمرّ عبر الأراضي الروسية قبل وصوله إلى بيروت أو بالعكس.
المصدر: عبدلله قمح – ليبانون ديبايت