كتبت جنى الدهيبي في “المدن”:
لا شيء عند ضفتي نهر “أبو علي”، وعلى سطحه المسقوف، سوى آثار الدمار ومخلفات الحملة الأمنية، التي أزالت التعديات والأكشاك والعشوائيات ومئات بسطات البالة والخضار.. المنشأة بصورة غير قانونية على الأملاك العامة.
بكبسة زر
أكثر من أسبوع مرّ على هذه الحملة الاستثنائية والأكبر في تاريخ الحملات المماثلة، والتي أطلقتها مديرية مخابرات الجيش بمؤازرة بلدية طرابلس وقوى الأمن الداخلي.
بالطبع، اقتصرت حملة “استرداد الأملاك العامة” على قمع المخالفات والتعديات ومن يعملون فيها، وهم من “المشغلين الصغار”، في حين أن الحملة لم تطل الرؤوس الكبيرة، ولم توقفهم، وهم من أصحاب النفوذ السياسي والأمني، ومن الذين حوّلوا سطح النهر وضفتيه والمنطقة المحيطة بهما، إلى مساحات مفتوحة للخوات، ولتأجير أملاك الدولة بفعل الأمر الواقع.
هؤلاء، جنوا مئات آلاف الدولارات منذ نحو عقدين، بعدما تناموا وتمددوا واحتلوا النهر وسطحه وما حوله.
وهكذا بكبسة زر، ولسبب يعتريه الغموض، رُفع الغطاء الأمني والسياسي عن المعتدين الأصليين، الذين جعلوا من “مشروع الإرث الثقافي”، لعنة تلاحق المدينة القديمة، ولا سيما في المناطق الواقعة ضمن ما يُعرف بطرابلس النهرية.
ما بعد الردم
وسط الركام في الجهة المسقوفة من نهر “أبو علي”، يقف محمد متحسرًا على إزالة بسطة أحذية بالة، كان يسترزق منها، كما يخبرنا، بعدما استأجرها قبل سنوات من طرف امتنع عن ذكر اسمه. ويقول: “قبل ثلاثة أيام من الحملة فقط، وجهت البلدية انذارًا للجميع لإزالة المخالفات. ظننا أن الحملة تشبه سابقاتها، ثم تفاجأنا بالجرافات التي رافقتها ملالات الجيش ومئات العناصر، فأزالت كل شيء بالقوة”.
هنا، يتكثف واقع طرابلس المرير، سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا وعمرانيًا. ووسط مئات الأبنية المهددة بالسقوط، نلحظ بقايا صور قديمة لسياسيي المدينة، وتوارثها المكان من انتخابات إلى أخرى. وتحت صورة عملاقة وممزقة لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، تعبر مجموعات من الشبان والنساء والرجال، الذين يتقاسمون التعب والمعاناة في وجوههم. تقول إحداهن: “منيح شالوا مخالفات زعران كتار، لأن كلهم معهم مصاري وأغنياء، مش رايحة إلا على الفقراء المعترين مثلنا”.
فشل مشروع “الإرث الثقافي”
نكسة نهر “أبو علي” الأولى، كانت طبيعية، في الفيضان الكبير عام 1955، الذي غيّر ملامح طرابلس النهرية وأغرقها، وألحق أضرارًا هائلة بهويتها وأبنيتها ودورها المديني والاجتماعي والاقتصادي. لكن نكسة النهر الثانية، كانت بالفشل الذريع في تنفيذ مشروع الإرث الثقافي، الذي لم يكتمل منذ العام 2005، وتم تنفيذه بإشراف مجلس الإنماء والإعمار، وبتمويل من البنك المركزي الأوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية، والمديرية العامة الإيطالية للتعاون والتنمية، وخصص له نحو 19 مليون دولارًا أميركيًا.
أما النتيجة، فكانت سقف أجزاء من نهر مؤهل ليكون من أهم المواقع السياحية النهرية في لبنان، وتحوله إلى مكب للنفايات ومصب للمجارير، مقابل الإساءة في إعادة تأهيل وإحياء قلب المدينة التاريخية المتاخمة للنهر. فتحولت مرتعًا للعربات وبسطات “البالة” وشتى أشكال المخالفات.
ومنذ ذلك الحين، صار سطح نهر “أبو علي” ومحيطه أيضًا، أشبه ببؤر للأحداث الأمنية وللجرائم. وفي السنوات الأخير، تم عمدًا إحراق البسطات على سطح النهر عدة مرات، طمعًا بالتعويضات وبفعل المنافسة الشرسة بين النافذين الذين يحتلون هذه المساحة ويختلفون على بضع سنتيمترات.
ما بعد الحملة
لكن، هل من خطة فعلية ستلي مرحلة ما بعد إزالة المخالفات في طرابلس؟
يتحدث عضو بلدية طرابلس، محمد نور الأيوبي، عن مساع جدية بذلتها البلدية لإزالة شتى أشكال الاعتداءات، لا سيما في المنطقة النهرية، لكنها تعطلت بعد 2019 بفعل الانهيار الاقتصادي وجائحة كورونا. وخلال هذه السنوات، “تنامت المخالفات والتعديات كالكتلة السرطانية على ضفاف نهر أبو علي، وصار ضبطها يحتاج لقرار أمني وبلدي استثنائي. فاتخذ أخيرًا بإزالة شتى المخالفات على الأملاك العامة وعلى الأوقاف الإسلامية”، يقول الأيوبي لـ”المدن”.
وواقع الحال، ربط كثيرون بين توقيت الحملة الذي يتزامن مع الدعوات لترحيل اللاجئين السوريين والحملات الأمنية ضدهم، خصوصًا أن معظم العاملين في هذه المنطقة يحملون الجنسية السورية.
يوضح الأيوبي: “هؤلاء السوريون بمعظمهم مجرد عمال، بينما الحملة تستهدف قمع المخالفات التي فرضها أصحاب الأمر الواقع والنافذين بالمنطقة منذ سنوات”.
ويُذكر الأيوبي بمشروع سوق الخضار الذي أنجزته البلدية منذ 2018، “وكان متاخمًا للمنطقة النهرية، وكان هدفه جمع مختلف أصحاب البسطات حتى يعملوا داخل السوق، بدل الاعتداء على المساحات العامة. لكن سرعان ما قام بعض المشغلين بالسوق بتأجير مساحاتهم للاجئين سوريين بمبالغ مرتفعة، مقابل الاستمرار بالاعتداءات خارج السوق”.
أما في مرحلة ما بعد إزالة المخالفات، فلا تملك السلطة الإدارية في البلدية رؤية وخطة لتأهيل المنطقة ومواكبتها، أو حتى لاستكمال مشروع الإرث الثقافي. وهو ما سيُبقى المنطقة النهرية أمام احتمالات الفوضى والاعتداءات وسطوة النافذين “المحتلين” من جديد.
المصدر: جنى الدهيبي – المدن