المردود المالي الذي كان يكسبه ابن السادسة والعشرين عاماً، مكَّنه من تأمين منزل والزواج من “حبيبة الطفولة” زينب التي تصغره بسنة واحدة. وبعد نحو شهرين من زواجهما، اندلعت الحرب في الجنوب لتبدأ رحلة معاناة مستمرة، حَمَلَت الزوجين من منزل “لا ينقصه شيء” إلى التنقُّل بين القرى والاستقرار في منزل ليس فيه سوى “فراش على البلاط” وانتظار فرصة عمل.. ومساعدات.
عمل وبطالة ونفقات
لم يعرف علي وزينب الخوف من الإنفاق المادي قبل الحرب. كانت الإدارة المالية جيّدة بشكل كافٍ لتأهيل المنزل وشراء أثاثه والإنفاق أيضاً على الترفيه والكثير من الرحلات مع الأصدقاء “ورغم التعب الجسدي، كان المردود المالي كافياً لنسيان التعب. بل كان محفّزاً لاستلام المزيد من الأعمال”، يقول علي في حديث لـ”المدن”.
بالنسبة إلى زينب، كانت تشقّ طريقها نحو التوظيف. هي درسَت “الرقابة الصحية وسلامة الغذاء”، وهو اختصاص “بات مطلوباً في سوق العمل بالتوازي مع تشديد وزارة الصحة رقابتها منذ سنوات على المستشفيات والمطاعم والملاحم وكل المؤسسات التي تُعنى بتقديم الغذاء للزبائن”. وتؤكّد زينب لـ”المدن”، أن أساتذتها في أحد المعاهد الفنّية شجّعوها على تقديم طلب توظيف في المستشفيات المحيطة ببنت جبيل “ونجحت في الاختبارات والمقابلات، وتمّ قبولي بأحد المستشفيات، لكن نظراً لانخفاض قيمة الراتب، لم أقبل العرض”. وتشير إلى أن الفرص لم تنتهِ، فتم قبولها في مستشفى أخرى، لكن في تلك الفترة، كان قد اقترب موعد عرسها، فرفضت العرض، لكن مسؤولة التوظيف هناك، أكّدت لها أن “الفرصة ستبقى متاحة… لكن انهارت كلّ الأحلام حين وقعت الحرب”.
تسعة أشهر مرَّت بثقلٍ حتى الآن. زادت البطالة ثقلها، وكان يمكن لأي مردود مالي أن “يخفِّف وطأة التهجير وترك المنزل والثياب والحاجات الشخصية”، يقول الزوجان. إذ “ليس من السهل مغادرة بنت جبيل مع حقيبة فيها القليل من الملابس، وعدم القدرة على شراء الملابس الضرورية. ففي الفترة بين شهر تشرين الثاني 2023 وشباط 2024 “كان الشتاء قاسياً نظراً إلى أننا لا نملك ثياباً شتوية ولا قدرة على شرائها. ولم يكن أمامي سوى الطلب من إحدى بنات الجيران في القرية القريبة التي انتقلنا إليها قرب مدينة صيدا، أن تعطيني سترة شتوية لأنّني لم أعد أحتمل البرد”، تضيف زينب التي تتعمّد إخفاء بعض التفاصيل في قصّتها، وخصوصاً أسماء القرى التي انتقلوا إليها وأسماء بعض الأشخاص، حرصاً على “الحدّ الأدنى من الخصوصية لنا وللعائلات المضيفة. وكذلك لأن ما نعيشه ليس سهلاً علينا من الناحية النفسية”.
منزل فارغ وفراشٌ على البلاط
انتقل الزوجان إلى قرية قرب مدينة صور. تمكَّنا من إيجاد منزل عن طريق أحد الأصدقاء الذي سجَّلَ أسميهما لدى مسؤول حزب الله في القرية، وبالتالي يستفيدان من إيجار منزل بقيمة 300 دولار شهرياً، يتّفق على المبلغ صاحب المنزل والعنصر الحزبي المكلَّف بالملفّ. لكن وفق ما هو متعارف عليه فإن “هذا المبلغ يجب أن يؤمِّن منزلاً مفروشاً، لكن ما وجدناه في المنزل، فراش مستعمل بلا سرير في غرفة النوم، و3 فرش صغيرة مستعملة، للجلوس في الصالون، لكن على البلاط، و4 كراسٍ بلاستيكية مستعملة. فضلاً عن برّاد صغير يُستَعمَل عادة في المكاتب وليس في المنازل، لكن بعد تشغيله ووضع بعض الأكل والأدوية داخله، اكتشفنا أنه معطَّل. وأبلغنا العنصر الحزبي بذلك، فقال بأن علينا تدبير أمرنا بهذا البرّاد كما هو. واضطررنا أيضاً إلى شراء غاز صغير. علماً أن بعض العائلات حظيت بمنزل لا ينقصه شيء، وبمبلغ مماثل يدفعه الحزب أيضاً”. يؤكّد الزوجان اللذان يختصران حياتهما في الواقع الجديد، بالقول أن “الإنفاق المادي بات محصوراً بمبلغ 200 دولار شهرياً يقدّمه الحزب، ولا يكفي للعيش بشكل لائق، حتّى مع صندوق “الإعاشة” الذي يحتوي على بعض المواد الغذائية التي تقلّصت كمّيتها وتغيّرت نوعية بعضها مقارنة مع ما كان يُقَدَّم خلال الفترة الأولى من الحرب”.
الأيام متشابهة. الكثير من الملل والقلق والانتظار ومحاولة التفكير بما سيكون عليه الوضع في الأشهر المقبلة “فالحرب مستمرة ولا أحد يعرف كيف ومتى ستنتهي”، يقول علي الذي يردّد بين الحين والآخر أن “الحرب بشعة وليست مزحة”. ويستغرب كيف يستسهل بعض الشبّان الدعوة إلى توسيع دائرة الحرب تحت حجّة هزيمة إسرائيل، إذ أن “الوضع المادي للعائلات المهجَّرة من القرى الحدودية لا يساعدها في تحمُّل أعباء استمرار الحرب بوتيرتها الحالية، فكيف بتوسيعها”. ويرى أن مثل هذه الدعوات “تأتي من أشخاص لا يعيشون معاناة المهجَّرين، بل يسكنون في بيوتهم في قرى لا تزال آمنة حتى الآن، ويتابعون حياتهم وأعمالهم بشكل طبيعي، وينفقون المال كلّما احتاجوا ذلك، سواء على الطعام أو الترفيه، في حين أن العائلات التي تركت منازلها على الحدود، تحاول التأقلم مع الحدّ الأدنى من المال والطعام للبقاء على قيد الحياة”. ويخشى الزوجان من ضمن قائمة طويلة من المخاوف “الإصابة بمرض ما. فلا قدرة مالية لتأمين نفقات العلاج أو شراء الأدوية”.
كالمنزل الفارغ كذلك حياة أغلب المهجَّرين من القرى الحدودية. والوضع المالي هو الهاجس الأساس أمامهم. ولا فرص عمل متاحة وفق ما هو مطلوب “فحتّى أبناء القرى التي تستقبل المهجَّرين، يعانون من تراجع حركة العمل في مختلف القطاعات”، يقول علي الذي يلفت النظر إلى أن “الحرب قلَّصَت حركة الأسواق والناس، وهذا ما أدّى إلى تراجع وتيرة العمل في القرى التي لا تتعرَّض للقصف بشكل متواصل، وكذلك هدَّدَ احتمالات إيجاد المهجَّرين فرص عمل في تلك المناطق”.
المصدر: خضر حسان – المدن