هل انتهت مرحلة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قبل نهاية ولايته، وهو الذي أكد أنه لن يتنحّى قبل آخر حزيران المقبل؟
أمس تسلم لبنان مذكرة التوقيف من “الإنتربول” بحق سلامة الرجل الذي عُيّن حاكماً لمصرف لبنان في زمن كان فيه اقتصاد لبنان مدمراً فأسّس لمرحلة إعادة إعمار لبنان بكلفة من الصعب جداً تقديرها، وتمويل من المستحيل احتساب كلفته. أنجز سلامة مهمة إعادة إعمار بيروت تحت هيمنة سلطة سياسية تمادت في إنفاق المال العام وهدره وتحصيل مكاسب سياسية على حساب الوطن والمواطن الى أن طفح الكيل سنة 2019، ولم يعد أحد قادراً على إخفاء كارثة الدين العام وتداعياته المدمّرة. رغم كل السلبيات، لم يكن أحد يتوقع أن تتجرأ السلطة السياسية على اتخاذ قرار التوقف عن خدمة الدين بشقيه الداخلي (بالليرة) والخارجي (بالدولار- يوروبوند) من دون خطة واضحة لإعادة الجدولة والهيكلة، رغم توافر ما يقارب 35 مليار دولار من الاحتياطي بالعملة الأجنبية لدى مصرف لبنان آنذاك، فأسهم القرار السياسي بالتوقف عن خدمة الدين بشلّ قدرة مصرف لبنان على التصرف وتسديد استحقاق 7 آذار 2020.
عكس كل ما يجري تداوله في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يعترف فعلياً وعملياً مصرف لبنان بالأزمة النقدية إلا بعد قرار الحكومة اللبنانية العشوائي التوقف عن خدمة الدين: أصبح لبنان “متعثراً” وفق التصنيف الائتماني، وبذلك أصبحت جميع المصارف التجارية العاملة في لبنان تحمل التصنيف الائتماني “متعثر”، وفق ما يقول خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد محمد فحيلي. في المقابل جمدت المصارف المراسلة، نافذة القطاع المالي اللبناني إلى العالم، أعمالها مع المصارف التجارية في لبنان إلى حين تعزيز أرصدتها لديها لتغطية المخاطر التي قد تنتج عن التعامل مع مصارف صُنّفت “متعثرة”، فيما سارع بعض المصارف إلى الاستجابة لطلب المصارف المراسلة والبعض الآخر دفع ثمن القرار السياسي الأرعن وجمّدت أرصدة حساباته لدى المصارف المراسلة. وأصبحت هناك حاجة لمصرف لبنان للتحرك للحد من التداعيات السلبية للتعثر غير المنظم.
انطلق مصرف لبنان بإدارة الأزمة في 9 نيسان 2020 مع إطلاق التعميم الأساسي الذي يحمل الرقم 150 والذي شرع إنشاء كيان نقدي مستقل وخالٍ من المخاطر الائتمانية وأطلق عليه اسم “دولار فريش” – دولار طازج! كان هذا التعميم بمثابة الرئة التي من خلالها استطاعت المصارف التنفس والانتعاش. ولكن في المقابل، يقول فحيلي، وُلد كيان نقدي آخر من رحم هذا التعميم وهو “الدولار المحلي” الذي تعذر تقدير “ثمنه” من أرباب المصارف التجارية أو/ والمشرع اللبناني. عندها اضطر مصرف لبنان إلى إصدار التعميم الأساسي الذي يحمل الرقم 151 وبموجبه تحدد ثمن الدولار المحلي، وهو اليوم 15000 ليرة للدولار الواحد بعد أن كان 8000 و4000 ليرة. وبموجب هذا التعميم بدأ مصرف لبنان إعادة توظيفات المصارف التجارية لديه بالعملة الأجنبية من خلال كل دولار يسحبه العميل من حسابه للتأكيد أن توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان (إلزامية واستثمارية) هي أموال المودعين وليست أموال المصرفيين”.
حافظت الليرة اللبنانية على موقعها في التداول من قبل مكوّنات الاقتصاد الوطني حتى منتصف عام 2022، ثم تدهورت بوتيرة متسارعة بعد إقرار قانون الموازنة العامة لعام 2022. ولكن فحيلي يوضح أنه “كان ثمة محاولة من مصرف لبنان لضبط الفلتان في سوق القطع الأجنبي من خلال إنشاء منصة للتداول بالعملة الأجنبية (التعميم الأساسي رقم 157). يلزم هذا التعميم كل المصارف العاملة في لبنان بالتسجيل على المنصة ولكن ترك لكل مصرف حرية التداول عليها. التداول يعني إعطاء المودع فرصة للحصول على دولار مدعوم. والمصارف التي اتخذت قرار التداول على المنصة، كانت الدولارات المدفوعة من مصرف لبنان تُحْتسب من رصيد توظيفاتها لدى المركزي”.
تداركت السلطة الوضع المعيشي المتأزم لموظفي القطاع العام واستمرت الحكومة بإقرار زيادات على الرواتب والأجور من دون التوقف بجدية عند كيفية تمويل هذه النفقات الإضافية. ووفق فحيلي فإن “السبيل الوحيد للتمويل كان طباعة العملة الوطنية، وبذلك تفاقمت الضغوط التضخمية ووقفت السلطة السياسية عاجزة أمام هذا الواقع. عندها اضطر مصرف لبنان إلى ابتداع هندسة مالية جديدة وأصدر التعميم الأساسي رقم 161 في أواخر عام 2021 الذي يُعرف اليوم بمنصة صيرفة”. الهدف الأساسي من هذا التعميم هو دفع رواتب وأجور موظفي القطاع العام على سعر صرف مدعوم للدولار وإعطاء كل واحد منهم فرصة للإفادة من فرق سعر الصرف بين “المنصة” والسوق الموازية، وعندها اضطر مصرف لبنان إلى الانخراط بالسوق الموازية لاعباً أساسياً طالباً للدولار لصرف الرواتب والأجور وبعض المصاريف التشغيلية الإضافية للدولة. لا ينفي فحيلي أن مصرف لبنان يعمد الى شراء دولارات رواتب وأجور الدولة من السوق الموازية ولا يتصرف بأموال المودعين. بيد أن هذه الدولارات لم تكن تُدفع من أموال المودعين، إذ كان مصرف لبنان ولا يزال يحصل عليها من السوق الموازية. أما المودعون المستفيدون من سعر الصرف المدعوم على منصة صيرفة ومن خارج الجسم الوظيفي للقطاع العام فدولاراتهم كانت ولا تزال تُصرف من توظيفات المصارف بالعملة الأجنبية لدى مصرف لبنان – أي من أموال المودعين. وبهذا يكون مصرف لبنان سدّد للمصارف قسطاً كبيراً من توظيفاتها لديه من خلال هذه التعاميم التي أسّست لسحوبات استثنائية من الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية”.
عام 2023 هو عام الاستبعاد النقدي لليرة اللبنانية والاعتماد الواسع والأوسع على الدولار في التداول. ولم تعد الليرة تشكل الحجم الأكبر من النقد المستعمل لتسديد فواتير الاستهلاك للمواطنين والمصاريف التشغيلية للمؤسسات، وبذلك لم يعد حجم الكتلة النقدية بالعملة الوطنية سبباً أساسياً وراء الضغوط التضخمية لأنه لم يعد بالتداول بشكل يؤثر على الأسعار. ولكن وفق فحيلي، “لا تزال الليرة اللبنانية، تخدم هدفاً مهماً والاستمرار بطباعتها مطلوب وضروري وذلك لأن مصرف لبنان اليوم “يصنع الدولار” الأميركي في لبنان باعتماد هندسة مالية ذكية وُلدت من رحم الأزمة التي تسبب بها عجز السلطة السياسية عن اتخاذ القرارات المسؤولة وتنفيذها. نعم، المركز يصنع الدولار ويسدد كلفة صناعته بالليرة. على سبيل المثال، إن كانت طباعة ورقة الـ100000 ليرة تكلف ربع دولار، فإن مصرف لبنان يوظف هذه الورقة لشراء 1 دولار أميركي لدفع رواتب القطاع العام، وباتت هذه الورقة (ورقة المئة ألف ليرة) لا توظف في التداول ولا في الاستهلاك من المواطنين (أفراداً ومؤسسات). وتالياً، ما دامت السلطة السياسية عاجزة عن إقرار الإصلاحات اللازمة والضرورية في المالية العامة، لذلك لن يكون من السهل التوقف عن طباعة العملة، ولكن يجب الاعتراف بأن مصرف لبنان نجح في التخفيف من ضغوطها التضخمية واستثمرها بأفضل الظروف”.
ويختم فحيلي بالقول “الشكر لسلامة في إدارة الأزمة في ظل الظروف التي أظهرت رغبة المواطن اللبناني، من خلال الانتخابات البرلمانية لعام 2022، في التمسك بهذه الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة والفاشلة، وبذلك تعذر عليه محاربتها حتى إن أراد ذلك لأن إرادة الشعب تعلو على أي إرادة أخرى. والملامة عليه، على سلامة، لأنه سهّل تمويل فسادهم وأنقذهم من خلال اعتناقه سدة الرئاسة في إدارة الأزمة الاقتصادية والنقدية والمالية لسنوات، وأظهر جرأة استثنائية وقدرة على اتخاذ قرارت لم تستطع السلطة التشريعية ولا حتى السلطة التنفيذية (وهما وجهان لعملة واحدة) اتخاذها!”.