لم يعتد اللبنانيون في الأشهر المنصرمة، استقرارا طويل الأمد لسعر صرف الدولار الأميركي في الأسواق، ولكن بعد إعلان مصرف لبنان تفعيل منصة “صيرفة”، وعودة تدخّله في السوق بقوة، أجبر الدولار على الإنكفاء الى نحو 97 ألف ليرة، ولمّا يزل.
إستمر الاستقرار طوال شهر رمضان وبعده، فيما سرت شائعات عن حتمية عودة ارتفاع الدولار بعد انتهاء شهر الأعياد، لأن الاستقرار الحالي في سعر صرفه، وفق الشائعات، مصطنع، وتم بناء على طلب وتمنٍّ من جهة سياسية على حاكم مصرف لبنان.
هذا التشاؤم الذي يواجه الاستقرار النقدي، يقابله تفاؤل واسع لدى الكثير من الخبراء ورجال الأعمال بعدم جواز عودة ارتفاع الدولار مجددا، وحجتهم في ذلك مجموعة معطيات إقتصادية، وإجراءات نقدية، ساهمت وستساهم مستقبلا في تبريد السوق وكبح الإرتفاع الجنوني الذي ساد في الأشهر الأخيرة، إلا إذا…
لماذا يجب ألّا يرتفع الدولار، وما المعطيات التي تدعم ذلك؟ وفق أكثر من مصدر متابع ثمة معطيات ميدانية تساهم بالحد من ارتفاع سعر الصرف. أولها أن ما بين مليار إلى ملياري دولار، هو ما سيكون عليه حجم إنفاق المغتربين والسياح المقدر في السوق خلال شهرَي نيسان وأيار، وهو مقدمة لما سيكون عليه موسم الصيف من إقبال إغترابي وسياحي واعد.
ثاني المعطيات، هو تراجع الإقبال على شراء الدولار عند شركات الصيارفة، والسبب اعتماد التسعير بالدولار وقوننته في السوبرماركت، ومحطات الوقود، والمطاعم، والفنادق وغيرها من الخدمات، ما قلل الضغط على الصيارفة وعرقل قدرتهم على استغلال الطلب المتزايد على الدولار لرفع سعره.
ثالث المعطيات، إستمرار مصرف لبنان بتسديد رواتب وأجور القطاع العام بالدولار على سعر “صيرفة”، مباشرة الى حسابات التوطين بالدولار التي أنشئت خصيصا لهذا الهدف، وتوقّفه عن ضخ الليرات الى المصارف بسبب ذلك، بما قلص الكتلة النقدية في السوق، وعرقل تحوّلها الى دولار. إلى ذلك يستمر مصرف لبنان بشفط الليرة من السوق وبيع الدولار الى العموم عبر “صيرفة”، لتجفيف ما أمكن من السيولة بالليرة اللبنانية في السوق، والتي تراجعت الى ما دون 65 ألف مليار ليرة.
إستمرار السؤال التفاؤلي “لماذا يجب ألّا يرتفع الدولار؟”، ليس رهن المعطيات الاقتصادية فحسب، بل سيبقى رهن استمرار دوام الاستقرار الأمني والسياسي النسبي، وخلوّ البلاد من التوترات أو “الضربات” غير المتوقعة، وتزايد التفاؤل السائد بالإنعكاسات الإيجابية المتوقعة لعملية التسوية السياسية الجارية في الإقليم، وتأثر لبنان بمفاعيلها إيجابا.
عوامل عدة تؤثر على سعر الصرف وقد باتت معروفة، اهمها العرض والطلب على الدولار والميزان التجاري وميزان المدفوعات وعجز الموازنة والمالية العامة وسعر الفائدة ومستوى الاسعار، وبالطبع الوضع السياسي والاستقرار والثقة بالمستقبل.
ولكن ما هي المعطيات العلمية التي تبين حقيقة سعر الصرف في لبنان والى اين يتجه؟
ترى مصادر اقتصادية متابعة ان الطلب على الدولار الاميركي منذ اشهر عدة اصبح 1.3 مليار دولار شهريا تقريبا، اي دون الـ 16 مليار دولار سنويا، وذلك لأسباب عدة اهمها انخفاض الاستيراد “نسبيا” من الخارج والتراجع الكبير في عدد العمال الاجانب في لبنان الذين كانوا يحوّلون ما يتقاضونه من رواتب الى الخارج، في المقابل يدخل الى السوق اللبنانية سنويا نحو 8 مليارات دولار من خلال تحويلات المغتربين، ونحو 4 مليارات دولار من الصادرات (يجب العمل على زيادتها عبر دعم الصناعة والزراعة، وقطاع المعلوماتية حيث يمكن ان يكون للبنان ميزة تنافسية في هذا الموضوع)، و2.5 مليار دولار كمساعدات متنوعة للجمعيات والاسر الفقيرة والنازحين السوريين، ونحو ملياري دولار من السياحة على مدار السنة. وتاليا مجموع ما يدخل الى لبنان سنويا يفوق 15 مليار دولار، اي يمكن تغطية حاجة السوق من الدولار الاميركي.
أمام هذه المعطيات، تشير المصادر الى أن “المنطق العلمي يشي باستقرار سعر الصرف وربما انخفاضه في حال صدقت التوقعات حول موسم سياحي ناشط صيفا. وبالطبع الانخفاض الاكبر يمكن ان يحصل في حال تم انتخاب رئيس للجمهورية يحظى بثقة اللبنانيين والمجتمع الدولي والعربي. مع الاشارة الى أن الكثير من المحللين الاقتصاديين العلميين المنطقيين يؤكدون انه من الناحية العلمية أن سعر صرف الليرة مضخم ويجب ان يكون ادنى 100 الف ليرة لكل دولار، كما أن التوقعات بانخفاض سعر الصرف الى 40 الف ليرة اكثر من منطقي ومتوازن في حال الشروع في الحد الادنى من الاصلاح، وتوقيع اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي والبدء بالاصلاحات”.
اما التهويل والقول إن سعر صرف الدولار المنطقي هو 200 ألف أو 300 ألف ليرة أو من دون سقف كما يروّج بعض المحللين فهو غير دقيق علميا، برأي المصادر، بل “جريمة تؤثر سلبا على حياة اللبنانيين ويجب ملاحقتهم في ذلك، لان القانون يعاقب مَن يروّج معلومات وتوقعات غير علمية تساهم بشكل مباشر في زيادة الازمة”. وإذ سألت المصادر “اين هي الدراسات التي تبين ان سعر صرف السوق هو 200 الف ليرة؟”، دعت الى “وقف هذه المسرحيات التلفزيونية، ووقف المضاربين والمنصات غير الشرعية بالطرق القانونية ووقف بث شائعات سلبية عن سعر الصرف خصوصا اذا كانت من دون ادلة. اما التنبؤ بأسعار خيالية فيلحق ضررا بالناس ومعيشتهم اليومية”.
ولكن هذا لا يعني ان “الوضع الاقتصادي والمالي جيد، بل على العكس الحقيقة المعروفة من كل عاقل ان لبنان يعاني من ازمة اقتصادية ومالية ومصرفية كبيرة جدا. ولكن ثمة حلول اذا توافرت الارادة”، وفق المصادر عينها.
على مدى اكثر من 20 سنة كانت دعوات متكررة من اقتصاديين وبعض السياسيين لوقف العجز في الموازنة، وتخفيف الدين العام، واصلاح قطاع الكهرباء والطاقة، وتحفيز النمو ودعم القطاعات الانتاجية. فالطاقة وخصوصا الكهرباء وحدها كلفت الخزينة اللبنانية نحو 25 مليار دولار اميركي “فريش”. هذه الدولارات تم تحويلها للخارج عبر مصرف لبنان كثمن فيول اويل وغاز اويل ومستحقات للسفن التركية وصيانة للمعامل. وهذا الرقم اي الـ 25 مليار دولار يشكل وحده اكثر من ثلث الفجوة المالية في لبنان. هذا المثال تورده المصادر لتؤكد أن معالجة قضية الكهرباء تؤدي الى تحسن اقتصادي كبير.
ماذا عن قرار رفع رواتب واجور وبدلات النقل للقطاع العام؟ ألا يمكن أن يؤدي الى انهيار اضافي في سعر الصرف؟ تقول المصادر إن “هذا الكلام غير دقيق ايضا. فكلفة الرواتب والاجور حاليا هي 3 آلاف مليار ليرة تدفع بالدولار على سعر “صيرفة” 60 الفاً اي 50 مليون دولار شهريا، وستصبح الكلفة بعد الزيادة نحو 6800 مليار ليرة تدفع على “صيرفة” في حينه (مثلا 86 الفا) اي ما يوازي 80 مليون دولار اميركي كحد اقصى، بما يعني ان الزيادة هي نحو 30 مليون دولار اميركي شهريا يمكن تأمينها بسهولة جدا من الدولار الجمركي وتحسين الجباية عبر “النافعة” والشؤون العقارية ومطار بيروت والمرافىء والاملاك البحرية، خصوصا في حال بدء حضور موظفي القطاع العام”.
لا تنفي المصادر أن “الواقع صعب ومؤلم، ولكن يوجد امل. وها هو الدولار ثابت منذ شهر واحتياط مصرف لبنان ارتفع نحو 100 مليون دولار اميركي، وهذا ما لم يتوقعه اي من المحللين التشاؤميين”. وتقول: “ثمة فارق بين الواقعية واختلاق وقائع. فلنتحلَّ بمنطق التفاؤل والامل، ولنضعط لقيام الاصلاح وانتخاب رئيس وتشكيل حكومة جديدة، ولنقدم افكارا علمية للخروج من الازمة. هذا يفيد اكثر من ان نكون كـ”البوم” بنقل اخبار سلبية فقط ونغضّ النظر عن اي ايجابية ولو صغيرة ونزيد من هموم الشعب اللبناني”.
لذا، وباختصار، تدعو المصادر الى “نقل الحقيقة، ولكن من دون تهويل… ولنعتمد العلم والمنطق بدل تحليلات غير علمية وغير مسؤولة قد تساهم في تردّي الاوضاع المالية والاقتصادية في البلاد أكثر مما هي عليه حاليا”.