كانت أحلام الآباء المؤسسين لمصرف لبنان والقيّمين على النقد الوطني مذ تسلموا إدارة شؤونهم النقدية، كبيرة وطموحة. أحلام دفعتهم الى بذل أقصى الجهد والاهتمام ليكون لهذا البلد الصغير مساحة وعدد واقتصاد، ومكانة متميزة بين الدول التي تفوقه إمكانيات وموارد بشرية وطبيعية. لم يخب سعيهم، وتصميمهم على انتزاع سمعة محترمة لليرة اللبنانية في الأوساط المالية العالمية، التي صار يحملها ويدخر فيها الكثير من الأشقاء العرب والأجانب.
استطاعت الليرة اللبنانية الصمود في أحلك الظروف المحلية والإقليمية وأصعبها، التي مرت على لبنان منذ نيله استقلاله في القرن الماضي، حتى وقوع الحرب الأهلية عام 1975 وبدء تحلل وتفكك أوصال الدولة. وبالرغم من ذلك، استطاعت الليرة بحكمة القيّمين على مصرف لبنان، تجاوز سقوط الدولة وانهيار الاقتصاد، حتى منتصف الثمانينيات، حين بدأ الانهيار الأول في تاريخ العملة الوطنية، قابله ارتفاع مطّرد للتضخم، أجبر مصرف لبنان على زيادة عدد الفئات من العملة الورقية، حيث وضع حينها في التداول، ورقتي عملة جديدة من فئة الـ500 ليرة، والألف ليرة. في أوائل التسعينيات ولمواجهة التضخم أكثر، وضع في التداول فئات جديدة. ففي عام 1992، أعدت الحكومة مشروع قانون لتعديل المادة 5 من قانون النقد والتسليف، واستحدثت فئات الخمسة آلاف ليرة، العشرة آلاف ليرة والخمسين ألف ليرة، والمئة ألف ليرة. وقد أوردت الحكومة آنذاك الأسباب الموجبة: “إن الدين العام بشقيه الداخلي والخارجي، قد زاد بسبب تقلص الواردات العامة، وانخفاض استيفاء بدل الخدمات العامة، كما أن النفقات العامة قد زادت بسبب الحالة التضخمية السائدة، بالإضافة إلى الارتفاع المطّرد في الأسعار. على ضوء هذا الواقع، تبدو الحاجة ماسّة إلى إصدار أوراق نقدية من فئات ذات قيمة أعلى من تلك التي يسمح قانون النقد والتسليف لمصرف لبنان بإصدارها، وذلك لتسهيل التعامل وتبادل السلع والخدمات بين الناس”.
بعد تثبيت سعر الصرف على 1500 وانحسار التضخم لم توضع بين أيدي اللبنانيين عملات جديدة بل طُوّرت طباعة العملات لتكون أكثر أماناً وثقة لدى حامليها. ولكن في ظل الوضع الحالي وسقوط الليرة في براثن التضخم، وانسداد الأفق والرؤية حول مصير الليرة، وتحوّل الاقتصاد شبه الكلي الى “الكاش”، بات من الصعب على اللبنانيين الاستمرار بالفئات الحالية للعملة الوطنية. حتّم هذا الواقع الجديد على المعنيين ضرورة التفكير جدياً في التوجّه الى وضع عملات جديدة من فئات كبيرة قيد التداول، والمطروح منها حالياً فئتا الـ500 ألف والمليون ليرة. ولا داعي للقول إن الرعب يكبر يوماً بعد آخر، من وصول التضخم الى مستويات تدفع بالدولة للذهاب مستقبلاً نحو فئات مليونية أكبر.
على الرغم من المؤشر الاقتصادي السلبي لوجود فئات كبيرة من العملات الوطنية قيد التداول، التي تشي بأن الاقتصاد عموماً ليس بخير، تساعد طباعة فئات جديدة في أمرين: الأول تسهيل عمليات التداول ونقل الأموال، التي تربك حالياً التجار والمصارف ورجال الأعمال وحتى المواطنين، وهذا أمر طبيعي في ظل واقع الاقتصاد النقدي. والثاني الوفر الكبير الذي يحققه مصرف لبنان، من جراء التوقف عن الاستمرار في طباعة العملات الصغيرة، التي تكاد في ظل ارتفاع سعر صرف الدولار الكبير، أن تزيد كلفة طباعتها عن قيمتها الشرائية.
وإن كان إصدار ورقة المليون ليرة لا يزال موضع تباحث، يبدو أن إصدار ورقة الـ500 ألف ليرة أصبح محسوماً ولم يعد عائقاً في ذلك إلا انتظار عقد جلسة لمجلس النواب لتعديل القانون، وفق ما تؤكد مصادر متابعة. المصادر عينها تؤكد الاتجاه الى طباعة فئات جديد أكبر من العملة الوطنية “خصوصاً أن فئة المئة ألف ليرة، بعد تراجع قيمة الليرة، أصبحت طباعتها مكلفة جداً نسبة الى قيمتها، وتالياً فإن طباعة ورقة الـ500 ألف ليرة مسألة مهمة وخصوصاً أن استعمال النقد في تزايد مستمرّ، على عكس ما كنّا نصبو إليه”. علماً بأن الأهداف المستقبلية هي للعودة الى وسائل الدفع الإلكترونية والمحافظ الإلكترونية Mobile Wallet. ولكن في المرحلة الحالية وما دام التعامل تعاملاً نقدياً، تؤكد المصادر أن “ثمة مشكلة في عد الأموال، فيما إدارة السيولة ستكون أسهل إن كان ثمة ورقة نقدية أكبر من المئة ألف. عدا عن ذلك، فإن طباعة عملة نقدية أكبر ستخفف على الناس حمل الكاش وتخزينه، إضافة الى أنها تخفف الأعباء عن المصارف والمؤسسات والشركات والمصرف المركزي والصرافين وشركات تحويل الأموال”.
وإن كانت الإيجابيات تقتصر على سهولة حمل العملة وعدّها وتخزينها، فإن السلبيات تبدو موجعة أكثر خصوصاً أن طباعة فئة أكبر تظهر تراجع قيمة العملة وفقدانها لقيمتها وهو أمر أصبح واقعاً، على أمل التسريع في الإصلاحات وخصوصاً في مجال قطاع الكهرباء، والتفاهم السياسي، وانتخاب رئيس للجمهورية وحكومة جديدة، وإلا فإن الأمور لن تكون لمصلحة الاقتصاد اللبناني عموماً والليرة خصوصاً.
إصدار ورقة المليون ليس الحلّ!
حين أُنشئ مصرف لبنان في عام 1963 ووفقاً لقانون النقد والتسليف كانت الورقة النقدية الصغيرة هي الليرة الواحدة والأكبر هي 250 ليرة. وبعدها عُدّلت المادة واستُحدثت ورقة الـ250 ليرة والألف ليرة، وفي عام 1992 كان آخر تعديل للقانون لاستحداث العشرة آلاف والخمسين ألف ليرة والمئة ألف ليرة. حالياً يكثر الحديث عن طرح ورقتي الـ500 ألف والمليون ليرة، وتبعاً لذلك طالب النائب ميشال ضاهر بجلسة تشريعية استثنائية يكون على جدول أعمالها بندان الأول تعديل المادة الخامسة من قانون النقد والتسليف، للإجازة لمصرف لبنان بطباعة أوراق نقدية تفوق قيمتها المئة ألف، والثاني التمديد للمجالس البلدية.
ويؤكد عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي صادق علوية أن اتخاذ قرار بإصدار أوراق نقدية لا يمكن إلا عبر تعديل قانون النقد والتسليف، ولكن المشكلة أن طباعة أوراق نقدية جديدة وبأعداد كبيرة، ستؤدّي الى تمويل العجز من هذه الأموال بشكل إضافي بما سيؤدّي الى مزيد من التضخم وستكبر في المقابل كرة الانهيار. وتالياً يرى علوية “أن طباعة أوراق نقدية بمعزل عن خطة نقدية وخطة اقتصادية للبلاد، هي أمر في غاية التهوّر الاقتصادي”. ويلفت الى أن المشكلة في النهاية ستقع على محدودي الدخل تماماً كما كان قرار تسعير السلع بالدولار الاميركي، بحيث نُقلت المشكلة من التجار وجزء كبير من القطاع الخاص الى العمال والموظفين ومحدودي الدخل. ولا ينفي علوية أن طباعة أوراق من فئتي الـ500 ألف والمليون ليرة قد تسهل على بعض كبريات المؤسسات التي تجبي أموالاً نقدية كبيرة نقل أموالها، بيد أن طباعة العملة يجب أن تكون جزءاً من خطة، لا أن تكون هي الخطة، وتالياً البحث عن حلول يكون في مكان آخر. ويقول علوية “لا تكمن المشكلة الاقتصادية في سهولة نقل الأموال، وإنما هي عقبة صغيرة قد تتم معالجتها إذا ما تم حل المشكلة الكبرى الاقتصادية والنقدية في البلاد”. وإذ أكد أنه “بالرغم من أن طرح أوراق نقدية كبيرة يسهل على المواطن اللبناني حركة السيولة، فإنه من دون أن يتزامن هذا الطرح مع خطة اقتصادية اصلاحية، لن يؤدي الى أي نتيجة إيجابية”، قال “قد يكون على المدى البعيد بعد وضع خطة جديدة وضع عملة جديدة كلياً كإزالة عدد من الأصفار، وليس بإصدار نقدي جديد”.
المصدر : النهار