رسمت التحقيقات التي أجريت مع مجموعة من الصرافين، خريطة واضحة عن هيكلية السوق وأدوار المتلاعبين بسعر الصرف، لكنها تظهر فقط التأثيرات الموضعية التي تظهر على شكل تذبذبات في سعر الصرف، ولا تفسّر بأي شكل من الأشكال الارتفاع البنيوي فيه ومساره العام، بل يمكن اعتبارها مؤشراً على أنه ما زال للّيرة قوّة إبرائيّة تنقبض تدريجاً ربطاً بقرارات التسعير بالدولار ما يعمّق ويكثّف التسارع في المسار العام الانحداري لسعر الصرف.
في إفادته التي قدّمها أمام المحققين في ملف الصرافة، «يتلبّس» مدير العمليات عمليات القطع الأجنبي عباس عواضة، عقل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي عيّنه في مركزه، فيقول إن مصرف لبنان يشتري شهرياً، من مجموعة من الصرافين، ما بين 200 مليون دولار و400 مليون دولار، وأن هذا الأمر لا يؤثّر على سعر الصرف لأنه «يضخّ هذه الدولارات في السوق مجدداً». ويشير إلى أن مصرف لبنان لا يحدّد سعر الشراء من الصرافين، بل يطلب منهم تسليمه لائحة بالمشتريات يحتسب على أساسها السعر الوسطي. عملياً، مصرف لبنان يشتريها بالسعر الوسطي ويُضيف إليها عمولة، ثم يضخّها في السوق، عبر قناة المصارف كما بات معروفاً، على شكل تمويل استيراد سلع، أو لدعم رواتب العاملين في القطاع العام، أو للعموم عبر التعميم 161.
إذاً، هل صحيح أن سعر الصرف لا يتأثّر بما يقوم به مصرف لبنان لجهة شراء وبيع الكمية نفسها من الدولارات في السوق كما يروّج عواضة ومن خلفه سلامة وسائر الذين يريدون إلصاق التّهمة بالصرافين حصراً؟ هنا التمييز ضروري بين المسار البنيوي العام لسعر الصرف، وبين التذبذبات التي تنتج من التداولات اليومية ومنها عمليات الصرافة. فما يقوم به مصرف لبنان يخلق مراهنات على سعر الصرف يستغلّها الصرافون لتحقيق أرباح من تذبذبات السعر. فليس هناك صراف واحد أو حتى تاجر يعلم بأن مصرف لبنان يشتري الدولارات بالسعر المعروض كل مرّة بسبب حاجته الحثيثة لها، لن يقوم برهان على ارتفاع سعر الصرف مستقبلاً، ولا يرفع أسعار منتجاته مسبقاً. الصرافون بهذا المعنى هم شركات وأفراد يتوقعون المزيد من الارتفاع في سعر الصرف، ويشترون الدولارات لبيعها لاحقاً بأسعار أعلى أو لشراء الكمية نفسها من السلع. وهذه المراهنة تصبح أكثر ربحية عندما يكون هناك ارتداد في السعر. والارتداد لا يحصل خارج إرادة مصرف لبنان مع كل عملية شراء وضخّ. الضخّ يمكن توقّعه أيضاً ربطاً بتدفّق الأموال من الخارج، سواء من المغتربين أو المنظمات حكومية أو غير الحكومية.
لو أمكن التسجيل على لائحتين منفصلتين، الجهات التي تشتري الدولار والجهات التي تبيعه، لتبيّن بوضوح غير قابل للشكّ أن الطلب على الدولار أكبر. وأن هذا العجز بنيوي، ونتيجته الحتمية ارتفاعاً متواصلاً في سعر الدولار تجاه الليرة. فعلى هذا المسار العام تتغذّى المضاربات التي تظهر في وتيرة الارتفاع: بين المستوى الأقصى الذي يبلغه السعر، وبين فترة الاستقرار النسبي. أما المسار العام لسعر الصرف هو اقتصادي واستمرار الأزمة بلا أي علاج هي جزء أساسي منه.
وتيرة التسارع أو التباطؤ في المسار العام لسعر الصرف، تستند إلى القوّة الإبرائيّة للّيرة. فالقوانين السائدة، كانت تفرض على الجميع استعمال الليرة وقبولها لتسديد الدين أو الثمن. إنما بمرور الوقت وتصاعد حدّة الأزمة في ظل اقتصاد يعتمد في استهلاكه الداخلي على استيراد السلع والخدمات من الخارج، بدأت الليرة تفقد قوّتها الإبرائية وبات استعمالها يصبح محصوراً أكثر فأكثر. وقد جاء ذلك بشكل أساسي بعدما سُمح بتسعير المازوت المستورد بالدولار النقدي وتلاه إصدار فواتير المولدات بالدولار النقدي، ثم سُمح أيضاً للمؤسسات السياحية بإظهار الأسعار بالدولار وتسديدها بالدولار النقدي، والآن يتم السماح لأصحاب السوبرماركت بعرض الأسعار واستيفاء الفواتير بالدولار النقدي أيضاً. وبالتالي فإن استعمال الليرة الفعلي لم يعد يشكل حصّة وازنة من مجمل التداولات اليومية. الأكيد لغاية الآن، أن تسعيرة النقل بالليرة وهو يمثّل من مجمل سلّة الاستهلاك نحو 13%، وكانت سلّة المواد الغذائية بالليرة أيضاً وتمثّل 20.6% من سلّة الاستهلاك، بالإضافة إلى بعض التعاملات غير الأساسية. وحتى الآن، فإن الأجور الوحيدة التي ما زالت غير مدولرة بشكل كامل، هي أجور العاملين في القطاع العام، فضلاً عن بعض الضرائب التي ما زالت بعيدة نسبياً.
في المجمل، كلما فقدت الليرة اللبنانية قوّتها الإبرائية، سواء للاستعمال في الاستهلاك والأجور، فإن ذلك ينعكس مباشرة على المسار العام لسعر الصرف ويسرّع من وتيرة انهيار الليرة. في لحظة ما، لن يعود سعر الصرف مهماً بعدما تخلّى غالبية الفاعلين في السوق عن الليرة، وبالتالي فإن الأصفار ستزداد واحداً بعد الآخر. أما النتيجة، فهي متصلة بأن نعيش في بلد ليس لديه عملة ذات قيمة، والمقيمون فيه فقراء محرومون من الحدّ الأدنى لجودة الحياة، وأبناؤه في بحث دائم عن الهجرة.
المصدر : الأخبار