في إطلالته التلفزيونية أول من أمس، أطلق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مواقف مطمئنة الى الناس حيال الوضع النقدي ومصير الودائع، لم تخلُ من مسحة تفاؤل غير واقعية إذا ما قورنت مع واقع الأمور ومسار السلحفاة الذي تسلكه المعالجات الرسمية، إذا ما وُجدت، وسط التناقض الفاضح في مقاربة الأزمة، وغياب الرؤية الواضحة والموحّدة لآليات الحل والخروج الى التعافي.
منذ بداية الأزمة قبل أكثر من ثلاثة أعوام والتناقض واضح حيال أكثر من مسألة تتصل بأسس المعالجة. فمقابل كل المواقف الرسمية المتمسكة والمصرة على ما تسمّيه قدسية الودائع وحقوق المودعين، يظهر التباين بوضوح في المقاربات الآيلة الى تحقيق هذا الأمر، ويمكن تعدادها بسهولة، وتبيّن النتائج الكارثية المتأتية عن عدم التعاطي معها بجدّية ومسؤولية على نحو يضمن حسن تطبيقها وتحقيقها لأهدافها.
منذ بداية الأزمة، كانت الخطوة الاولى الفورية المطلوبة تكمن في إقرار مشروع قانون يفرض القيود على السحوبات والتحويلات وينظم حركتها. لكن المصالح والحسابات السياسية والخاصة كانت أكبر من الوصول الى توافق حوله فكانت نتيجة العجز السياسي عن الاتفاق على إقرار المشروع بعد طرح أكثر من مسوّدة ونقاشات طويلة في اللجان النيابية أن خرج الجزء الأكبر من الأموال في شكل قانوني إذ لا قانون يحظر ذلك.
التخبط برز بقوة أيضاً في مسألة ضبط تدهور الليرة منذ بدأ الكباش بين حاكم المصرف المركزي رياض سلامة ورئيس الحكومة الأسبق حسان دياب على ضوء قرار حكومته التخلف عن سداد اليوروبوندز والطلب الى الحاكم وقف التدخل في السوق واستعمال الاحتياطات للدفاع عن الليرة، فكانت النتيجة تعدّد أسعار الصرف بفعل التعاميم وبروز السوق الموازية بديلاً والتحوّل الى اقتصاد الكاش، وسط فقدان العملة الوطنية ٩٠ في المئة من قيمتها.
ثالثة المقاربات الخاطئة تجلّت في سوء إدارة الأزمة المصرفية وعدم المبادرة فوراً الى الإجراءات وإقرار التشريعات اللازمة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي من جهة والقطاع المالي من جهة أخرى. ذلك أن التلهّي بأزمة #المصارف والودائع أشاحت النظر عن الأزمة البنيوية الكامنة في المديونية المتفاقمة وتراجع قدرة الدولة على تمويل ميزانيتها. أما التركيز على الأزمة المصرفية، فجاء من باب الفجوة المالية المطلوب تغطيتها والتي تضاعفت قيمتها في سنوات الأزمة. والخطير أن البلاد لا تزال تعيش في المواجهة القائمة حول تحديد حجم ما بات يُعرف بالخسائر المالية، وحول توزعها لناحية الجهات التي تتحمّل مسؤوليتها، إضافة الى النقطة الأهم، الكامنة في الإجراءات الآيلة الى إعادتها الى أصحابها أي المودعين، ما دام كل دولار أنفق كان في الجزء الأكبر منه من أموال المودعين.
أما النقطة الرابعة فتتصل بمقاربة العلاقة مع صندوق النقد الدولي، ودوره، وسط تفاوت واضح بين مؤيّد لهذا الدور ومعتبر أنه السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، وبين معارض من باب رفض ما يوصف بالوصاية الدولية عموماً والاميركية خصوصاً، أو من باب اعتبار أن البرنامج مع الصندوق والدعم الذي سيقدّمه، لن يكونا كافيين في ظل سياسة الهدر المعتمدة داخلياً والتي أدّت الى حرق أكثر من ٢٠ مليار دولار من الاحتياطات على سياسات الدعم والتهريب.
وسط كل هذه التناقضات، جل ما يطلبه المودع أن يخرج مسؤول ويجيب عن أسئلة واضحة ومحدّدة: هل سيستعيد الناس ودائعهم، ووفق أي سعر وبأي جدول زمني؟ ومتى تحسم الحكومة أمرها وتصارح الناس بالآليات العملية لتحقيق هذا الأمر؟
بالأمس أعاد رئيس الحكومة التأكيد أن الودائع ستعود الى أصحابها. وبجملة واحدة قال الشيء ونقيضه. فهو إذ أعلن أن كل الودائع قبل ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ ستعود كاملة الى المودعين، وأن بقيّة الودائع ستكون في صندوق إعادة الودائع، كشف أن العملية ستكون مرتبطة أيضاً بصندوق إعادة الودائع، وأن هناك آلية يجري العمل عليها لهذا الحل، مؤكداً أن كل الودائع تحت ال١٠٠ ألف دولار ستعود الى أصحابها.
لم يذهب ميقاتي في كلامه الى مستوى تقديم وقائع تطمئن المودعين، بل اكتفى بترداد ما عكف على قوله منذ أكثر من عام عن إعادة الودائع من دون تفاصيل.
يعوّل ميقاتي في كلامه على البرنامج مع صندوق النقد من جهة، على صندوق إعادة الودائع حيث ستودع كل الودائع التي تفوق المئة ألف دولار تحت باب المطلوبات، مقابل بعض الإجراءات التي ستوفر الأموال في باب الأصول، منها إصدار شهادات إيداع المصارف أو استبدال ودائع بأسهم مصرفية أو استرجاع أموال محوّلة أو منهوبة وأخيراً تحديد مساهمة الدولة على قاعدة الاعتراف بالالتزامات وعدم نكرانها. كما يعوّل على دور للقطاع الخاص نظراً الى عجز الدولة وحدها عن إدارة أصولها.
لكن ما يتكتّم عنه ميقاتي كما كل المسؤولين في الدولة هو مصارحة الناس بحقيقتين: الأولى حجم الأموال التي ستُسترد، والمهلة الزمنية لذلك.
بمعادلة بسيطة جداً يُحتسب حجم الفجوة بـ٧٠ مليار دولار، مقابل إيرادات من كل المرافق لا تتجاوز مليار دولار (وهذا عملياً حجم الموازنة العامة)، فإن سد الفجوة لن يكون ممكناً وفق هذه الأرقام، قبل ٧٠ عاماً!
المصدر : النهار