“القلق والخوف، أدقّ تعبير لحالة الطلاب وأهلهم في الأسبوع السادس من الإضراب. كمية دروس هائلة تضيع. مستويات تعليمية تضعف. عدم العودة يعني خسارة سنة كاملة كبّلها الانتظار، أو ترفيع غير مستحق صار الأهل يعرفون جيداً أنه ليس لمصلحة أولادهم. أما العودة بالنسبة إليهم فتعني ضغطاً رهيباً من أجل التعويض. والقلق مضاعف لدى طلاب الشهادات الرسمية، إذ تتحوّل البوصلة إلى الامتحانات الرسمية: «هل ستقام؟ وأيّ عدل تحققه، والطلاب في التعليم الخاص يسبقوننا في كمية الدروس المشروحة والأفكار والمعلومات المعطاة؟»، يقول حسن، طالب في الصف الثاني عشر.
كلّ يوم إضافي من التوقف القسري عن التعليم يمرّ دهراً على سينتيا. تنظر إلى ابنها ينام حتى الظهر، يقضي نهاره يقلّب في صفحات الفايسبوك والإنستغرام والتيكتوك، وليله في مشاهدة الأفلام الأجنبية. ثم تسمع زمامير الباصات المدرسية وهي تتوقف أمام البناء، وترى الأهالي يمسكون بأيدي أبنائهم ويحملون محفظاتهم المدرسية، فـ«أختنق». تمارس هذه السيدة عنفاً قاسياً على ذاتها «لأنني ظلمته وقبلت أن أسجله في مدرسة رسمية، في السنة المقبلة سأسجله في الخاص ولو تطلّب الأمر أن أبيع عفش المنزل». تلوم نفسها «كلما فكرت أنني أربّي ابناً جاهلاً لا يدرس»، فتفتح المحفظة وتسحب الكتب لتوقظ ذاكرته بين الحين والآخر، وهو يتذمّر: «والله حفظتهم».
إسقاط على «الضحية»
أحياناً، يسقط الأهالي ندمهم حيال ثقتهم بالتعليم الرسمي ومشاعرهم السلبية تجاه فقرهم المسؤول عما يحصل مع أولادهم بـ«الضحية نفسها»: الأولاد. مصطفى، مثلاً، يتجنّب الجلوس مع والده وشقيقه الأكبر ليهرب من نعتهم إياه بالفاشل. «يريدونني أن أدرس، لكن ماذا أدرس؟ ويريدونني أن أترك الهاتف، لكن ماذا أفعل؟». هجر مجموعات الواتساب الخاصة بالمدرسة أيضاً لأنها «تضاعف قلقي». ليس هناك ملجأ لهذا الصبي، حتى الضيوف لا يرحمونه، يقذفونه بنظرات الشفقة كلما صادفهم في منزله، ويرمونه بتعليقاتهم: «يا حرام ستضيع السنة الدراسية عليك». يعدّ مصطفى السنوات ليتحرّر من التعليم الرسمي: «أربع سنوات وأتخرّج»، فتردّ عليه والدته: «بعدها تدخل في كباش الجامعة اللبنانية، ومن هالك إلى مالك إلى قبّاض الأرواح».
البحث عن عمل
ما إن لوّح الأساتذة بالإضراب حتى فتش طلاب في التعليم الرسمي، بشكل خاص في المرحلة الثانوية، عن عمل لاستثمار الوقت وكسب المال خلال الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّون بها. وطبعاً، حاجتهم إلى عمل ظرفيّ قبل الحصول على شهادات يزجّهم في السوق السوداء ويجعلهم عرضة لكلّ أشكال الاستغلال. وكلما طال الإضراب يزداد الجفاء بين الطلاب والعلم، ويغريهم الشعور بالاستقلالية المادية، فتصعب العودة من جديد إلى المدارس والثانويات. «ممنوع التوقف عن العلم»، تردّ شذى على هذه الهواجس. لا تزال ابنة الخمسة عشر عاماً تبحث عن عمل تؤمن من خلاله مصروفها، لأنه كلما صارحت صاحب العمل بأنها ستتوقف عندما تفتح الثانوية أبوابها يقابل طلبها بالرفض. صديقتاها في الصف وجدتا عملاً في محل لبيع الملابس قريب من منزلهما.
درس بلا شرح
الحلول التي يبتكرها الطلاب والأهالي تشير إلى تخبّط مؤسف. بعضهم يستعين بالمدارس الخاصة، فيدرس دروسها بما أوتي من قدرة على الفهم. وبعضهم الآخر يستعين بمعاهد غير مرخّصة تتولى الشرح والدعم بدلاً من المدرسة. تقصد طالبة في الصف العاشر، برفقة زميلاتها، المدرسة الخاصة التي تلقت التعليم الابتدائي فيها، لتتابع الدروس حيث توقفت قبل الإضراب، «المدير تطوّع وتكفّل بشرح المواد العلمية بعد أن ينتهي الدوام حتى لا يفوتنا شيء».
في السنة المقبلة سأسجّله في الخاص ولو تطلّب الأمر أن أبيع عفش المنزل
من جهتها، تجمع فاطمة طلاباً من مدارس رسمية وخاصة للتدريس الخصوصي في منزلها في بلدة كفرا الجنوبية. اختارتهم من صفوف مشتركة لتدرّسهم «دفعة واحدة» على الأجندة. لم تنته عطلة رأس السنة لدى طلابها الذين يدرسون في مدرسة القرية الرسمية، أجنداتهم لا تزال ناصعة البياض. لذا، استفادت من «تقارب المناهج الدراسية بين المدارس الرسمية والخاصة، واشتراك الطلاب في الصفوف ذاتها» لتملأ الأجندات الفارغة، وتخلق الدروس غير المشروحة، وتتابع العام الدراسي من منزلها، علماً أن فاطمة غير حائزة شهادة جامعية بالتربية ولا في أي اختصاص آخر، فهي درست علم النفس لسنة واحدة و«طوّرت نفسي عن طريق الدورات نظراً إلى حبي للتدريس والأطفال على حد سواء». الأهل راضون لأنهم «يجدون ذلك أفضل من التوقف عن التدريس كليّاً كما يفعل آخرون من أبناء المدرسة الرسمية»، أما الطلاب فـ«يتجاوبون معي بسهولة لأنهم أذكياء ولأنّ لديّ أسلوبي الخاص».
«نحبّ المدرسة»
عندما يفكّ الإضراب، ستكون العودة ميمونة للطلاب وأهاليهم. الأطفال الثلاثة يقولون ذلك. فهم لم يُتعبوا والدتهم لدى إيقاظهم للذهاب إلى المدرسة صبيحة الاثنين الفائت، بعد فك الإضراب جزئياً من قبل بعض المعلمات في مدرسة عربصاليم الرسمية. «كما لو أنه اليوم الأول في العام الدراسي ناموا متحمسين واستيقظوا في اليوم التالي فرحين، وعادوا ولم تفارق الضحكات وجوههم»، تقول والدتهم مروى، مستغربة أن أولادها «طلعوا بحبّوا المدرسة». الأم أيضاً سعيدة بعودتهم، لكنها لا تصارحهم بأنّ هذه العودة «محفوفة بالخطر».
المصدر : الأخبار