تحرك الدولار في اليومين الأخيرين صعوداً، في همّة ونشاط تشبه انتقاله من الـ30 الى 37 ألف السريع، منذ شهر تقريباً. هذا التفلت غير المتوقع، بسبب الآمال التي عُقدت على منصّة صيرفة لكبح جنونه، وضبط تموضعه على سعر “أربعيني”، يشي بأن سعر صرف الدولار، صار مكشوف السطح والرأس، وأن خط الوصول الى مشارف الانهيار الشامل بان، وباتت التمنيات ليس متى يقف الانهيار وأين، بل أن يرأف الارتطام الكبير بأوجاع الناس، وبلقمة عيشهم، وجرعة دوائهم، وبما بقي من حياة اقتصادية واجتماعية قائمة.
في جميع مراحل صعود الدولار المتمادي، كانت منصّة صيرفة باب التعويض الوحيد للخسائر التي يتكبّدها الموظفون والعمال برواتبهم وأجورهم، كما كانت تسد جزءاً ولو يسيراً، من الملاءة المالية للشركات الصغرى، وميزانيات أصحاب المهن الحرة.
لكنها عانت في الأسبوعين الأخيرين، من ثقل قرار مصرف لبنان، فتح الافادة منها الى مبالغ غير محدودة من جهة، وأثقال شفط الدولار من السوق اللبنانية، الى الخارج تهريباً، أو لشراء مستوردات للتهريب من جهة أخرى، مما شكل عامل ضغط قاسٍ ومرير عليها، أدّى الى نزف خطير في ميزانية مصرف لبنان، قيل إنه بلغ نحو مليار دولار، مرصودة منه، لغاية إغراق السوق بالدولار للجم اندفاعه، وسحب الليرات اللبنانية بالمقابل لخفض التضخم.
هذا النزف دفع مصرف لبنان الى شد الاحزمة قليلاً، خافضاً سقف الإفادة من صيرفة الى 100 مليون ليرة فقط للأفراد، وهذا ما انعكس سلباً على الأسواق الجائعة والنهمة للدولار، فتحرك صعوداً، متحرراً من لجامه حتى وصل الى مشارف الخمسين ألف ليرة… “والله يستر”.
معظم مصارف لبنان توقفت أخيراً عن تنفيذ عمليات صيرفة، باستثناء رواتب وأجور القطاع العام، والأسلاك العسكرية، التي يستمر سحبها عبر الصرافات الآلية، على سعر منصة صيرفة.
بعض المصارف عزت توقف “صيرفة” الى أنه بعد قرار مصرف لبنان استبعاد المؤسسات عن الإفادة من منصة “صيرفة” خُفضت المبالغ التي يخصّصها الأخير للمصارف، وتالياً لم يعد باستطاعتها تلبية طلبات الزبائن كالمعتاد، فيما أكدت أخرى أن “المركزي” توقف عن رفدها بالمبالغ المطلوبة لتلبية طلبات الزبائن، بما حدا بها الى وقف تنفيذ عمليات “صيرفة”، فأدى الامر الى إرباك بين المصارف وزبائنها، وخصوصا أولئك الذين كانوا قد تقدموا بالافادة من مبالغ تجاوزت 100 مليون ليرة قبل قرار توقف العمل بمنصة صيرفة، وكانت النتيجة سحب 400 دولار فقط من المبلغ أو ما يعادل 15 مليون ليرة استثنائياً وتسليم بقية المبلغ بالليرة، وفق ما كانوا قد أودعوه.
أما مصادر مصرف لبنان، فأكدت أن من البديهي أن يحصل هذا التخبّط في ظل الضغط على “صيرفة” الذي نتجت عنه إيداعات مرتفعة في “المركزي” ناهزت 12 تريليون ليرة في خلال أسبوعين، بما استلزم حركة غير عادية في مصرف لبنان لاحتساب الاموال وعدّها والتأكد من أنها غير مزيّفة، وتالياً كان ثمة تأخير في تسليم المصارف مبالغ جديدة. هذا الأمر حدا ببعض المصارف الى وقف “صيرفة” في انتظار تنفيذ عمليات الزبائن التي أودعت مبالغ للإفادة من صيرفة، على أن تعاود استقبال زبائن جدد بدءاً من الأسبوع المقبل بعد رفدها من “المركزي” بمبالغ جديدة.
يشار الى أنه بعدما أعلن مصرف لبنان فتح باب بيع دولار المنصة من دون قيود، زاد من وتيرة تداول دولارات المنصة عبر المصارف، فناهز حجم عمليات “صيرفة” 1.27 مليار دولار بين 28 كانون الأول و9 كانون الثاني الماضيين، أي بمعدل 212 مليون دولار خلال اليوم الواحد.
مع بداية الأسبوع المقبل سيتقاضى من أودع أموالاً على صيرفة كامل حقوقه ويبدأ cycle جديد، المصادر عينها أكدت “عودة الانتظام الى “صيرفة” التي ستستعيد زخمها الاسبوع المقبل، عبر زيادة تلبية طلبات المصارف من الدولار، ضمن حدود المنطق، مع الأخذ في الاعتبار الحد من المضاربة والاستغلال، وذلك بعدما وُضعت ضوابط إضافية”.
الخبير الاقتصادي الدكتور كمال حمدان أكد لـ”النهار” أن لا سقف للدولار ما دامت سياسة الانكار والعض على الأصابع وتراشق المسؤوليات عن أكبر زلزال مالي حصل في تاريخ البلد، توازياً مع تعطل المؤشرات الماكرواقتصادية الأساسية من ميزان المدفوعات الى الحساب الجاري وعجز الموازنة والنظام الضريبي.
هل هذا يعني أنه لا حل قريباً لأزمة سعر صرف الدولار؟ لا يرى حمدان حلاً جذرياً “إلا باقتلاع هذه المنظومة الحاكمة وتغيير جذري في بنية النظام وفي قانون الانتخاب ووصول نخب جديدة الى مواقع القرار في السلطة ووضع سياسات إصلاحية جديدة على صفحة بيضاء”، حتى إن القوانين الإصلاحية التي اعتُبرت إنجازاً وتقدّماً لا تعدو كونها جزءاً من سياسة الإنكار خصوصاً في ظل غياب المؤسسات والمراسيم التنظيمية”.
أما بالنسبة لقدرة صيرفة على الحد من ارتفاع سعر الصرف، فيرى حمدان أنها “قد تكون أداة موقتة للجم أو تقريب الفجوات لأسعار الصرف المتعددة، ولكن ما دامت الاختلالات الماكرواقتصادية هي التي تتقدم على الإصلاحات المطلوبة في ظل موارد لبنان المحدودة، فلا يتوقع أحد أي معالجة لسعر الصرف وهو مفتوح على كل الاحتمالات”، لافتاً الى “ضرورة تأليف حكومة بصلاحيات استثنائية لمعالجة قد تكون موجعة لكل هذه الفجوات ووضع الأسس التنظيمية والإصلاحية لكل المفاصل الاقتصادية”.
مصادر متابعة، أكدت أن ما يجري على صعيد سعر الصرف لا يخضع للمنطق، بدليل أن النقد بالتداول وفقاً للأرقام التي ستُنشر الأسبوع المقبل انخفض من أكثر من 80 ألف مليار ليرة إلى نحو أقل 68 ألف مليار ليرة أي بنحو 12 ألف مليار ليرة، وتالياً عندما كان النقد بالتداول في الفترات السابقة نحو 68 ألف مليار ليرة كان سعر صرف الدولار نحو 37 ألف ليرة. وتالياً عندما ينخفض النقد بالتداول بهذا الحجم، فإن ذلك يعني أن الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية خُفضت بنحو 17%، ويعني أيضاً أنه يُفترض أن ينخفض سعر الصرف 17%”. ولكن ما يجري هو العكس، وسعر الصرف يرتفع، وهذا أمر لا يحصل في أيّ دولة من دول العالم. المصادر عينها عزت الأمر الى التشنج السياسي والمضاربة، فيما الحل الاساسي برأيها يكون سياسياً وإصلاحياً، ووقف التهريب، والهدر، والمنصّات غير الشرعية التي يبدو أنها أصبحت أيضاً تؤثر سلباً على قطاع النقل وسائقي التاكسي الذين تراجع أو توقف عمل الكثير منهم نتيجة منصّات تسعير التاكسي التي تدار من خارج الحدود.
المصدر : النهار