رغم مضي أكثر من شهرين على توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، فان ثمة سؤالان رئيسيان ما برحا يطرحان نفسيهما بشدة والحاح : هل كان العامل الوطني اللبناني الدافع الأوحد الى عقد ذاك الاتفاق؟ وهل راعى حقيقة الحفاظ على حقوق لبنان، في حدوده البحرية وثرواته الاستراتيجية نفطا وغازا، على ما يتغنى بعض الأفرقاء اللبنانيين به؟
الواقع انه لم يكن من قبيل المصادفة، ما ذهبت الى ترويجه، عقب توقيع الاتفاق مباشرة، تقارير ومتابعات في وسائل اعلام أوروبية، عن اقتراب الايرانيين، أكثر من أي وقت مضى، من إصابة «صفقتهم» السياسية والنووية المؤجلة مع ادارة بايدن. فما لم يعد سرا ان التأثير الايراني في دوائر القرار السياسي اللبناني أصبح من التغول، بحيث يمكننا القول، ودون أي التباس، ان اختتام مسار الاتفاق البحري على الشكل الذي رسا عليه، ما كان ليعبر بالسلاسة الفائقة هذه، لولا ضوء أخضر ايرانيا، ظهرت تجلياته بكل وضوح، في مسارعة حزب الله الى ابتداع «تسهيلات» (في أحسن توصيف)، فاجأت حواصلها الوسيط الأميركي نفسه، وقد وجد ان كثيرا من الذي كان مرفوضا في جولات تفاوض سابقة، ومنظورا إليه باعتباره ينتقص من حق لبنان في مياهه وثرواته الطبيعية، قد تم التراجع عنه بسحر ساحر، وصار ميسورا هينا ومتاحا الآن، التلاقي والتفاهم والانطلاق، ايذانا بافتتاح «زمن الترسيم مع اسرائيل» !ذلك ان أساس تعاطي الحزب مع ملف الترسيم البحري، شأن تعاطيه مع السواد الأعظم من القضايا والملفات السياسية والأمنية التي يمسك بها، انصب على كيفية تمريره وفقا للرؤية والتوقيت الذي يجد فيهما عرابه الايراني، فرصة لتجييره في محفظة صفقاته الاقليمية والمكاسب. وهو ما يبدو ان نظام طهران، الواقع هذه الأيام تحت وطأة احتجاجات شعبية تعم البلاد، على خلفية مقتل الشابة الكردية مهسا أميني، نجح فيه بالفعل، ولو بدرجة أولية. إذ تؤشر معطيات جديدة الى ان ادارة بايدن، عادت وفتحت أمامه أبواب التسهيل، عبر تلبية اقتراحه باعادة تنشيط احدى قنوات الاتصال الخلفية التي سبق وان جمعت ممثلين عن الطرفين، أواسط الصيف الماضي، قبل ان ترى الادارة الديموقراطية ايقافها لعدم جدواها. حيث استضافت مجددا العاصمة العمانية مسقط، خلال الأسابيع الأخيرة، أكثر من جولة تفاوضية واعدة بين الجانبين، بعيدا من الأضواء. وعلى ذمة «دير شبيجل» اﻷلمانية، يتوقع لهذه القناة المازالت مفتوحة، على عكس ما يتطاير، في الفضاء الاعلامي، من فرضيات عن وصول « النووي الايراني» الى حائط مسدود (تدرج بعض التحليلات زيارة رئيس الأركان العامة الاسرائيلي، أفيف كوخافي، الأخيرة الى واشنطن، والتي جرت في أجواء أفول حكومة ليبيد، وانشغال نتنياهو باختيار تشكيلته الحكومية، في سياق الاطلاع عن كثب على تفاصيل «لقاءات مسقط»، واجراء تقييم شامل لها مع الجانب الأميركي)، ان تسفر اذا ما استمر الايرانيون بذات الأجواء والروحية المسهلة، عن تفاهمات كبيرة في ملفات اقليمية معقدة، وتذليل ما يعترض ولادة الاتفاق النووي الجديد، وبالأخص في ما يتعلق بكمية التخصيب المسموح بها، وحدود مراقبة المفتشين النوويين التابعين للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفيما يبدو انه احد الثمار المباشرة لقناة مسقط التفاوضية، كان لافتا ما شهدته مؤخرا أزمة تشكيل الحكومة العراقية من انفراج،مع تكليف محمد شياع السوداني، المقرب ايرانيا، رئاسة الحكومة الجديدة التي نالت ثقة البرلمان العراقي، أواخر الشهر المنصرم، وذلك بعد أكثر من عام على اجراء الانتخابات التشريعية المبكرة، وما نتج عنها من خسارة حلفاء ايران سيطرتهم النيابية.
اذن، وبعيدا من أي رتوش تجميلية أو تنظيرات «حزبية»، تحاول ايهام الرأي العام، بأن العامل اللبناني كان المتصدر أو المؤثر الأوحد في حسابات حزب الله «الترسيمية»، يقف الدافع الايراني، وبمعزل عن أي عوامل أخرى، كعامل حاسم وراء تمرير الحزب اتفاق الترسيم بالشكل والمضمون اللذين تم بهما، هو البارع، على مدى تاريخه، في التقاط الاشارات الايرانية حال صدورها وترجمة رموزها الى واقع وخطوات سياسية وأمنية محسوسة على الأرض. ولاشك انه من هذا المنطلق، الذي يشكل «أساس وكنه وجوديته»، يكتسب وزنه وموقعه الوظيفي المتقدم في منظومة الحرس الثوري الايراني، واستراتيجيته في الاقليم. ولما لا وقد سارع الحزب لترجمة الاشارات العليا دون مجرد السؤال عما اذا كان اتفاق على جانب كبير من الأهمية والخطورة، بحجم ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، قد عرف طريقه الى مجلس الوزراء كي يصادق عليه أم لا، أو اذا كان تم عرضه على البرلمان، لمناقشته واقراره من قبل ممثلي الشعب اللبناني، أو اذا كان قد حافظ بالفعل، وهنا بيت القصيد، على الحقوق اللبنانية كاملة غير منقوصة؟! . فالعامل المتصدر هنا ما كان لبنانيا، خلافا لما يحاول البعض ان يوحي. وممثل القرار الرسمي اللبناني (المختطف؟) اقتصر حضوره، قبيل مغادرة منصبه بساعات، على سحب القلم من جيب بزته الأعلى، والتوقيع أمام عدسات المصورين، وحضور الوسيط الأميركي – الاسرائيلي الأصل – بابتسامة عريضة ذي دلالة، على اتفاق يرى خبراء ان ما به من فجوات وعدم توازن والتباسات، يضع لبنان وثرواته الطبيعية المأمولة، رهن معادلات ورغبات اسرائيلية قد لا تسمح له مستقبلا بالانتقال السلس الى مصاف الدول الغازية والنفطية، أو أقله بالاستفادة من هذه العوائد بالصورة التي يطمح إليها، دون المرور من بوابة التطبيع الشامل معها.
ولئن فشلت أذرع «المحور» الاعلامية، بكل ما تملك من أدوات، في مشاغلة الرأي العام، وحرف الأنظار بعيدا عن ما بدأ يتكشف من خفايا اتفاق الترسيم، المثير للجدل، وما يثار عن طبيعة الدور والأداء، والتدخل «التسهيلي» الضاغط والمباشر للحزب، في ضوء مساعي راعيه الاقليمي لمغازلة البيت الأبيض، وتحسين شروطه التفاوضية معه، فإن ما انتهى إليه قطار الترسيم يضعنا أمام ثلاث معطيات أساسية لا يمكن تجاهلها بأي حال.
أولاها، ان المحور السياسي الذي انضوى يوما لاسقاط 17 أيار، تحت عنوان «اسقاط اتفاق العار». بتوجيه ورعاية من دمشق، في ذلك الوقت.
وهو الاتفاق الذي أبرمته الحكومة اللبنانية مع اسرائيل، في عهد الرئيس أمين الجميل، العام 1983، هو نفسه المحور – ويالها من مفارقة! – الذي يعود ممثلوه اليوم، وان تبدلت موازين التوجيه والرعاية الاقليمية، ليقبلوا اتفاقا أقل ما يقال فيه انه ليس بأفضل حال من ذاك الذي هللوا طويلا لاسقاطه قبل 38 عاما !.
صحيح ان المقارنه بين الاتفاقين دونها عقبات جمة، كون الأول رمى في حينه الى عقد اتفاق شامل مع اسرائيل، وتطبيع العلاقات معها، لكن الصحيح أيضا ان الاتفاق الحالي، وان اقتصر في فحواه على ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين، ربما بلغ في تنازلاته الأمنية والسيادية ما لم يبلغه اتفاق 17 أيار، ولاسيما في الشق الذي تناول فيه حدود لبنان البحرية مع الدولة الاسرائيلية. وهو الأمر الذي جعل عسكريا لبنانيا بارزا شارك في جولات تفاوض سابقة مع اسرائيل، يطلق صرخة تحذيرية من عواقب ضياع الحقوق اللبنانية، في ضوء النتائج التي ترتبت على ابرام الاتفاق الأخير . فبشهادة العميد بسام ياسين، رئيس الوفد اللبناني المفاوض مع اسرائيل بين عامي 2020 و 2021، فإن الاتفاق الجديد أبقى على منطقة العوامات التي تمتد الى حوالي 5 كلم من الشاطئ اللبناني، تحت الاحتلال الاسرائيلي، وبالتالي كرس حرية دخول مراكبه العسكرية إليها، كما هي الحال الآن، واعتبارها منطقة أمنية تخصع له بامتياز . في حين
ان اتفاق 17 ايار كان احتفظ بهذه المنطقة، فضلا عن منطقة اضافية أخرى تقع الى الجنوب منها، تحت السيطرة الأمنية اللبنانية. وبينما اعترف اتفاق أيار، بسيادة لبنان على نقطة رأس الناقورة الحدودية، رغم انه ابقاها ضمن منطقة أمنية، فإن الاتفاق الجديد، ودائما وفق شهادة ياسين، جاء ليبقي على نقطة رأس الناقورة، ومعها نقطة ال B1 والنفق السياحي، تحت احتلال اسرائيل، وتم تأجيل البحث بها الى أجل غير مسمى، حيث لن تأتي فرصة سانحة أخرى، على حد تاكيد ياسين، أفضل من الآن لحل هذه المعضلة.
ولعل ما قاله كبير المفاوضين اللبنانيين السابق (لمزيد من التفصيل راجع شهادة العميد ياسين المنشورة على صفحته في «فايسبوك»)، يكشف في جانب كبير منه، عن كيفية ادارة القابضين على زمام السلطة، سفينة المفاوضات البحرية، وتوجيه دفتها بما يخدم هندسات وتكتيكات اقليمية، تحكمت بها صعودا وهبوطا، وبخاصة في مراحلها الأخيرة . فوفقا لمصادر اعلامية واسعة الاطلاع، فإن حزب الله، وفي سبيل سعيه، في الربع الساعة الأخير، لتمرير الاتفاق على توقيت التوجيه الايراني، ودون النظر الى مفاعيل الثمن والكلفة، أوعز الى حليفه في بعبدا (وهنا يبرز المعطى الثاني) اعتماد الخط 23 عوضا عن التمسك بالخط 29 وبالتالي التنازل عن 1.435 كيلو مترا مربعا، كان المفاوض اللبناني قد طالب بحق لبنان في السيادة عليها. المسار المتخبط والتنازلي ذاك، أنتج، في الختام، خروج اسرائيل من جراء الاتفاق هذا، بسلة من «الذخائر» الاقتصادية والطاقوية والأمنية، ما كانت لتحلم بأكثر منها. كيف لا وقد أصبحت بين ليلة وضحاها، شريكة لبنان في حقل قانا، والذي كان بالامكان ابقاؤه –
ناهيك عن «حقوق استراتيجية» أخرى تم التنازل عنها بكل سهولة، ربما تحتاج مقالا لاحقا أكثر تفصيلا – تحت سيادته الكاملة، وضمن حقوقة الأصيلة والخالصة، فيما لو تمسكت السلطة بالتفاوض على أساس الخط 29 . وهو
ما يعني بصريح العبارة (وهنا يتمظهر المعطى الثالث والأهم)، ان ما هو مزمع من شراكة اسرائيلية في حقل قانا، بما نسبته 17 بالمئة، فضلا عن انه يثبت فوزا اسرائيليا موصوفا على قاعدة ان ما لاسرائيل هو لاسرائيل وما للبنان هو لاسرائيل ولبنان، انما يضع قدم الأخير، بحكم الأمر الواقع، في ملعب التطبيع الاقتصادي مع تل أبيب، مهما حاول بعض «المتفذلكين» التنطح لانكار ذلك أو الالتفاف عليه، عبر «تخريجة» بائسة من هنا أو هناك !
المصدر :اللواء