لم يملّ المجلس النيابي بكتله كافة، وبمعظم تلاوينه السياسية وأحزابه، من السعي الى إخراج مشروع قانون “الكابيتال كونترول”، يعتقد واضعوه أنه سيكون بمثابة الحل الجذري لمعضلة فقدان السيولة، واستمرار تهريب الودائع الى الخارج، وتهاوي سعر صرف الليرة ومعها الإقتصاد. هذا القانون “المعجزة” الذي حبل به المجلس النيابي منذ ثلاث سنوات ونيف، يرفض الولادة الطبيعية، ويصر بعناد غير مفهوم على الولادة القيصرية. فلا صرخات المودعين المطالِبة بإقراره، ولا نداءات المصارف الخائفة من تنامي الأحكام القضائية في الخارج ضدها، ولا الضرورات النقدية والإقتصادية، ولا شروط المؤسسات الدولية ومطالبها، إستطاعت استيلاد قانون لا يحتاج الى أكثر من جلسة واحدة، لإقرار جملة ذهبية واحدة، بمادة وحيدة، تنص على “منع تحويل الدولارات من الودائع والحسابات التي كانت معقودة قبل 17 تشرين 2019 الى الخارج تحت أي مسمى، ومن دون أي استثناءات”. ويبدأ العمل بهذا القانون فورا، الى حين إقرار القوانين والتشريعات المطلوبة، لإصلاح وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتحديث قانون النقد والتسليف، بما يتلاءم مع المستجدات النقدية والإقتصادية التي طرأت في السنوات المنصرمة.
لا شك في أن نيّات البعض في مجلس النواب صادقة، وتدفع الى إقرار القانون بالسرعة القصوى الممكنة بهدف حماية المودعين من جهة، وحماية ما تبقى من سيولة في المصارف من جهة أخرى.
لكن تعديل المادة 6 من القانون عبر الزام المصارف بتسديد 800 دولار “فريش” على الاقل شهريا لكل مودع قبل 17 تشرين 2019، نقل النقاش الى ضفة أخرى، وذهب بالقانون الى أهداف لا تمتّ الى مصلحة المودعين والمصارف بأي صلة.
هل من نية لشطب مصارف؟
في الشكل، ثمة صلة عضوية “سيامية” بين المصارف والمودعين، وفي المضمون، كلاهما واقعان في حفرة فقدان السيولة، ويعانيان من تهرّب الدولة من تسديد ديونها، كما يعرفان أن ما تبقى من دولة، غير مبالية بحقوقهما، تسعى مباشرة أو مواربة إلى شطب ديونهما التي هي في الأصل ودائع. لذا فإن أي ضرر يصيب المصارف أكثر، سينعكس حكماً على المودعين ضررا أكبر.
أحد المسؤولين الناشطين في إقرار القانون، أجاب عن سؤال حول ما إذا كانت المصارف تستطيع دفع الـ 800 دولار الشهرية لكل مودع؟ فالمبلغ المطلوب كبير، والمصارف في حالة موت سريري. فكان جوابه: “من لا يقدر من المصارف، ولا يملك، فليعلن إفلاسه”.
هذا موقف خطير، وخطير جدا، خصوصا إذا صح ما يقال ان هذا الكلام يمثل الإستراتيجية الجديدة للدولة، في التعاطي بموضوع الودائع والمصارف. الخطورة فيه برأي متابعين أنه “يشطب المصارف والودائع معاً. فالمصارف وإن كانت تُحتضر، وفي العناية الفائقة، إلا أن بعض الدعم والسيولة، وتوافر ظروف سياسية وأمنية واقتصادية مقبولة، قد تساعدها للخروج مجددا الى العمل الذي تحترفه جيدا، وقد تكون عندئذ قادرة على رد الأمانات الى أصحابها. أما إذا شطبت المصارف، أو أعلنت إفلاسها، فمن سيعيد للمودعين ودائعهم؟ عبر بيع موجوداتها مثلا؟ قطعا لا تكفي…الدولة؟ قطعا لا تقدر. إذاً، الحل يقبع منتظرا في جيبة السلطة، ويقضي بالعودة الى المشروع القديم المستجد للحكومة، عبر إنشاء مصارف جديدة، بأموال جديدة، وإدارات جديدة، ومودعين جدد، وما على بقايا المصارف ومودعيها إلا الخضوع للآية الإنجيلية “دعوا الموتى يدفنون موتاهم”.
ما بين مليون، ومليون ونصف مليون عدد الحسابات المؤهلة للحصول على الـ 800 دولار، وفق بعض التقديرات، بما يعني حسابيا، في حال إنتقينا العدد الأدنى للحسابات، أي مليون حساب، سيكون على المصارف تسديد 800 مليون دولار تقريبا في الشهر، أي ما يقرب من 10 مليارات دولار سنويا.
فمن أين ستأتي المصارف بسيولة كهذه؟ وكيف؟ هل يعرف السادة النواب، ومعهم ممثلوهم في الحكومة والمؤسسات، أن قاعدة التشريع الصحيح هي بناء القوانين برفق، وواقعية، وبعدالة تسمح بتطبيقها، لتخدم أهدافها والمصلحة العامة؟… “فإذا كنت تريد أن تطاع فاطلب المستطاع”.
الامين العام لجمعية المصارف الدكتور فادي خلف اوضح لـ”النهار” ان الحسابات المؤهلة من خلال التعميم 158 تقدر بنحو 900 الف حساب، تقدَّم نحو 180 الفا منها بطلب الافادة من مندرجات التعميم، وتاليا فإن عدم وضع ضوابط للافادة من سحوبات الـ 800 دولار سيرفع حكما عدد الحسابات التي ستطلب الافادة من سحوبات غير مشروطة إلى أرقام تتجاوز المليون حساب. وأكد أن مبلغ الـ 800 دولار، وإن وضعت بعض الضوابط للحصول عليها، بيد انه يجب الاخذ في الاعتبار ايضا ضرورة تقسيم الـمبلغ مناصفة بين الدولار “الفريش” والليرة اللبنانية كالآتي:
400 دولار “فريش” (200 دولار من المصارف عبر السيولة المتوافرة لديها، و200 دولار من الاحتياط لدى مصرف لبنان)، و400 دولار بالعملة اللبنانية وفق سعر الصرف الذي تحدده اللجنة المنوط بها تحديد آليات تطبيق القانون.
توازيا، طالبت مصادر مصرفية عبر “النهار” باعادة النظر في المادة السادسة من مشروع قانون “الكابيتال كونترول”، لضمان قدرة المصارف، أو على الاقل معظمها، على تنفيذها. فالمصارف التي تنفذ حتى اليوم كل التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان، بما فيها التعميم 158 لاعادة الودائع حتى سقف 50 الف دولار، انما تنفذ ما هي قادرة عليه آخذة في الاعتبار السيولة المتوافرة لديها. وتستند المصادر الى التعميم 158 الذي حرص مصرف لبنان من خلاله على تقسيم اعادة الودائع على اساس 400 دولار “فريش”، و400 دولار بالليرة وفق سعر صرف حدده بـ12 الف ليرة. وتوازيا ايضا، يتكفل “المركزي” دفع نصف المبلغ الشهري، أي 200 دولار من المصارف و200 دولار منه. ويضيف خلف أن “هذه التقسيمات لم يقررها “المركزي” لمعاقبة المودع، بل لأنه على اطلاع على سيولة المصارف، وتاليا أخذ في الاعتبار ما تستطيع المصارف تنفيذه”.
أما النائب السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور محمد بعاصيري، فيستند الى معادلة حسابية بسيطة، ليعبّر عن خشيته من ان “سيولة القطاع المصرفي بالدولار الاميركي حاليا قد لا تمكنه من تلبية هذه السحوبات، خصوصا اذا أخذنا في الاعتبار ان مبلغ الـ 800 دولار ينطبق على مليون و600 الف حساب افراديا. ويقارن بعاصيري هذه المعادلة بمصير التحويلات الطالبية الى الخارج، في حين يجب مقاربة الموضوع برأيه من ناحية “عملانية وموضوعية”. وسأل: “هل المشرع على اطلاع على المعلومات الصحيحة بالنسبة لسيولة المصارف؟ وماذا اذا لم تتمكن المصارف من الالتزام بهذا القانون عند اقراره؟ هل توفر للمشرع مناقشة امكانية تطبيق هذا المقترح مع الجهات الملزمة بالتطبيق؟”.
ويعتبر بعاصيري ان “مقاربة هذا الموضوع قد لا تتماشى مع واقع الامور، فيما السؤال الذي لا يزال يشغل البال هو: هل هناك ارادة حقيقية لاقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول بعدما انقضى على حراك 17 تشرين اكثر من ثلاث سنوات، ام ان المجلس في انقساماته السياسية لا يتمكن حتى الان من اقرار مشروع القانون؟!”.
تؤكد مصادر مصرفية أن “أزمة المصارف مرتبطة أصلا بالسيولة غير المتوافرة. وتاليا، عندما يقرر النواب امرا بهذا الصدد، ويدركون مسبقا ان المصارف او معظمها عاجزة عن تنفيذه، فهذا يعني أمرا واحدا أنهم يمارسون الشعبوية لإرضاء الناس”، بيد أن بعاصيري الذي أوضح أنه لا يمكنه التكهن في نية المشرع، قال: “يبدو ان بعض الشعبوية لا تزال مسيطرة على الجو العام، إذ إن التشريع الآن قد يرضي المودعين، ولكن ماذا عن التطبيق؟ هل يُترك للمستقبل؟ أما اذا لم تتمكن المصارف من التطبيق، فهي مسؤولية تتحملها وحدها بغض النظر عن امكانية التطبيق. واما في ما يتعلق بالاحراج والاخراج فهذا شأن تقرره قدرة المصارف على الالتزام بمندرجات قانون هيكلة المصارف عند اقراره وليس ما يقرره قانون الكابيتال كونترول”.
ولكن للمتخصص في الرقابة القضائية على المصارف الدكتور باسكال فؤاد ضاهر رأي آخر، إذ يؤكد ان على المشترع ولاتمام مهامه ان “لا يشرع اي تسديد بدلي وان يورد في الكابيتال كونترول نصا يلزم بإعادة الأموال التي اخرجت من البلد، وإلا لا معنى لإقرار هكذا قانون بعد مرور 3 سنوات على بدء الازمة”. ويضيف ضاهر: “حين اعادة تلك الأموال يصبح اي حد أدنى مساق بعملة العقد قابلا للتسديد من المصرف، علما انه كان محددا بمبلغ 1000 دولار، وتاليا يمسي هذا القانون عبارة عن 3 مواد فقط: مادة لفرض قيد على السحوبات النقدية بنكنوت بعملة الوديعة ضمن حد مقبول من المودع لتمكينه من العيش الكريم ضمن فترة محددة زمنيا، ومادة تفرض القيد على التحاويل، وأخرى تبيح بعض الاستثناءات”.
المصدر : النهار