هل هناك أسباب غير معلنة دفعت بالأمس حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى اصدار بيانين متلاحقين، اعلن في الأول منهما ان ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي خلال فترة الأعياد التي امتدت ثلاثة ايام 2000 ليرة في السوق الموازية، “ناتج عن عمليات مضاربة وتهريب الدولار خارج الحدود”… واعلن تاليا رفع سعر “صيرفة” ليصل إلى 38 الف ليرة، على ان “يشتري مصرف لبنان كل الليرات اللبنانية ويبيع الدولار على سعر 38 الفا”؟ وعلى اثر صدور هذين البيانين سجل سعر الدولار تراجعاً تجاوز الـ5 آلاف ليرة.
في المقابل، قلّل الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود عبر “النهار” من “أهمية الحديث عن عمليات تهريب دولارات الى سوريا أو حتى اجراء عمليات صيرفة كبيرة”.
قبل التوسع في هذا الموضوع، يشير مسؤول سابق من منطقة البقاع، الى انه تابع شخصيا كيف نشطت أخيرا عملية نقل المحروقات من لبنان الى سوريا، لا سيما عبر معبر المصنع الذي يعدّ أهم المعابر الشرعية بين البلدين. وهذه العملية، بحسب هذا المسؤول، ليس فيها شبهة تهريب، وإلا لكانت تمت عبر المعابر غير الشرعية وما أكثرها، والتي عرفت نموا لا سابق له منذ بدء الحرب في سوريا عام 2011، والتي صارت رمزا لنفوذ “حزب الله” على الحدود الشرقية. لذا، وبحسب المصدر، فإن عددا كبيرا من المركبات عمدت في الآونة الأخيرة الى توسيع خزانات الوقود فيها كي تستوعب كميات اكبر من المعتاد وملئها من محطات الوقود في المنطقة والتي لم تعد تعاني من أي شحّ بعدما صارت هذه السلعة تباع وفق سعرها بالدولار الأميركي. بعد ذلك تنطلق المركبات نحو معبر المصنع، وما ان تجتازه ببضعة كيلومترات وقبل ان تصل الى معبر جديدة يابوس على الجانب السوري من الحدود، يجري إفراغ هذه الخزانات في مركبات آتية من سوريا. وتتم عملية بيع ما تحمله المركبات اللبنانية بـ”الفريش” دولار فقط. والسبب كما يقول المصدر، هو ان العملة السورية لم تعد صالحة بعد الانهيار الهائل في سعر صرفها مقابل الدولار. وأي عملية تتم بالعملة السورية، لن يكون مضمونا ان تؤدي الى تحويلها دولارات بالسعر الذي يحفظ للبائع اللبناني أرباحه، وإلا فإن السائق اللبناني الذي يفعل ذلك، سيجد نفسه خاسرا عند عودته الى منطقة شتورا لكي يحوّل الليرات السورية الى دولارات، والسبب ان تدهور سعر العملة السورية يحصل بين ساعة وساعة. من هنا تقرر ان تباع المحروقات الواصلة من لبنان الى سوريا بالعملة الخضراء التي صار السوريون يحملونها معهم الى المنطقة الفاصلة بين معبريّ البلدين.
كيف تبدّل مشهد البيع والشراء الذي كان يحصل وفق النقد المحلي أي اللبناني والسوري، بعدما كان سائدا لأجيال بين البلدين؟
للإجابة لا بد من العودة الى ما صارت اليه أحوال سوريا أخيرا. ومن المفيد قراءة التحقيق الذي نشرته “الفايننشال تايمز” البريطانية في عددها الصادر في 23 الجاري. في التحقيق، تقول ايما فورستر من “مجلس اللاجئين السوريين”: “الناس يخبروننا انها السنة الأسوأ. الوقود كان متوافرا سابقا لكنه كان غاليا. اما الآن فهو ليس متوافرا، ما ترك تأثيرا على كل نواحي الحياة في البلاد. لا وقود لمولدات الكهرباء، المعامل أوقفت عملياتها والجامعات الغت الصفوف وانقطاع التيار يستمر 22 ساعة يوميا في دمشق ومحيطها”.
وتضيف: “لقد وضع وزير النفط بسام طعمة اللوم على شح الواردات من إيران الحليف الرئيسي لنظام بشار الأسد والمزود الرئيسي للوقود منذ فرض العقوبات في أوائل أعوام الحرب. والمعطيات حول الشحنات بين البلدين غير منتظمة وليس واضحا لماذا خفّضتها إيران”. ولكن كما يقول جهاد اليازجي المحرر الاقتصادي في نشرة التقرير السوري: “ليس من سبب لتصديق الحكومة هنا، خصوصا انها تجني أرباحا وفيرة في هذا القطاع. ويقول (الوزير) طعمة ان الشحنات الإيرانية قد انخفضت. ولو لم تكن هذه هي الحالة ما كان الأخير ليلوم الإيرانيين”.
عادة يتم شراء واردات الوقود الإيراني كدين، لكن هذا الشح فرض على الحكومة التفتيش عن مصدر آخر على أساس الدفع نقدا من احتياط العملات الأجنبية. هذا ما أدى الى ان يصل سعر شراء الدولار في السوق السوداء الى 6000 ليرة سورية.
وتضع الحكومة اللوم أيضا على العقوبات الأميركية وعلى الحملة العسكرية التركية الأخيرة في شمال شرق سوريا، وادت الغارات الجوية الى تدمير البنى التحتية للطاقة بما في ذلك مصافي التكرير ومعامل الكهرباء، وكذلك وضع اللوم على الغزو الروسي لأوكرانيا ما تسبب بارتفاع الأسعار.
ويتابع التحقيق: “بسبب قلة الموارد والفساد الواسع الانتشار خفضت الحكومة دعم السلع الأساسية ما حرم ملايين السوريين الحصول على الخبز المدعوم ومنتجات النفط بداية هذه السنة. وهؤلاء الذين ما زالوا يحصلون على دعم فحصتهم 25 ليترا من الوقود كل 10 أيام، لكن السكان والمحللين يقولون ان هذه الحصة يمكن الحصول عليها كل 20 يوما.
ولقد ضاعفت الحكومة سعر المازوت غير المدعوم فأصبح 5400 ليرة أو ما يعادل دولارين و14 سنتا لكل ليتر، و4900 ليرة سعر ليتر البنزين، وخفضت حصة الآليات الحكومية من الوقود بنسبة 40 في المئة حتى نهاية هذا العام.
وأدت ازمة الوقود الى احتجاجات في السويداء ذات الغالبية الدرزية ما أدى الى مقتل محتج وضابط أمن وجرح آخرين”.
ويخلص التحقيق الى القول: “يرى كثيرون ان بدء الشتاء فاقم الازمات، وبحسب المواطن يوسف في حلب والذي فضّل ذكر اسمه الأول: “الشتاء الماضي كان قاسيا لكن الشتاء الحالي قد يقتلنا”.
بعد تحقيق الصحيفة البريطانية، ليس سرا القول ان لبنان يصبح قبلة الأنظار بالنسبة الى السوق السورية. وبحسب المسؤول السابق، فإن تهافت المقتدرين في سوريا على الحصول على “الفريش” دولار من لبنان، اشاع ان الاخير يدفع ثمن هذا التهافت. بَيد أن هناك وجهاً آخر في الامر، يتمثل بإنفاق السوريين الدولارات مجددا في لبنان لشراء المحروقات، أي ان الدولار في لبنان يخرج من “الباب” الى سوريا ليعود الى لبنان مرة أخرى من “الطاقة”. فهل هذا هو السبب وراء “اطمئنان” مصرف لبنان الى ان الدولرة التي صارت تحكم لبنان وسوريا معا، لن تهدد احتياط “المركزي” من العملات الصعبة إذا ما قرر التدخل للجم ارتفاع سعر الدولار في لبنان؟
المصدر : النهار