في زمن الازمات والانهيارات الاقتصادية والمالية، ينشط قنّاصو الفرص ومستغلّو اوجاع الناس فيستبيحون كل القواعد الانسانية والاخلاقية والقانونية إشباعا لشجعهم والكسب غير المشروع. منذ ان انهارت الليرة وانقطع سيل السيولة بالدولار الاميركي من المصارف بعد تعثّرها وتوقفها عن الدفع، سطع نجم قطاع الصيرفة ومستبدلي العملات، وبات لكل زقاق وشارع ودسكرة صراف أو اثنان وربما أكثر، كما بات كل صاحب مصلحة صرافا مستترا او معلنا واللعب بالدولار على المكشوف، فيما الغائب الوحيد هي الدولة والقانون وأجهزة الرقابة صاحبة الصلاحية والدور.
لم يكتفِ تجار العملة (المقصود الصرافون غير القانونيين) بما يجنونه من فارق البيع والشراء، بل أدخلوا عملاءهم بما يشبه برامج التسليف والايداعات بملايين الدولارات مقابل عمولات كانوا يمنحونها لأصحاب رأس المال مدّعين انهم جنوها من خلال المضاربة بأسعار صرف الدولار الاميركي، حتى أن بعضهم استنبط افكارا منها اغراء عملاء ومواطنين وحتى صرافين بمراهنات على تقلبات اسعار صرف الدولار والليرة اوقعت الكثير من “السذج” بشباكهم، وباتت هذه المراهنات بسبب حنكة مديري اللعبة وحذاقتهم على كل شفة ولسان ومصدر كسب وهمي يتقاضاه العميل بعضه “كاش” وبعضه الآخر يعاد استخدامه في عمليات أوسع طمعا بربح أكبر. تطورت هذه العملية لتشبه مراهنات سباق الخيل، لها مريدوها ومكاتبها السرية وصرافون جوالون وايضا مكاتب صيرفة غير قانونية.
انتشرت الاسبوع الماضي تسجيلات صوتية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لصرافين ومواطنين يشكون من هروب صرافين وتجار عملة واختفائهم عن الانظار حاملين معهم ملايين الدولارات التي كسبوها من خلال ايهام زبائنهم بالربح السريع عبر المضاربة على سعر الصرف او المشاركة في عمليات مراهنة مضمونة. عندما انتشر الخبر، كان بمثابة “طرفة” أخذ الناس يتداولونها، الى ان انقشعت الامور وبان “مرج” الخسائر، حيث ان بعض الارقام المتداولة تشير الى أن ما جناه المرابون يقدر بعشرات ملايين الدولارات نقداً هربوا بها الى أماكن مجهولة حتى الآن. ويشاع ان معظم المبالغ تم إخراجها من #لبنان الى سوريا والعراق، بدليل أن بعض الاسماء التي انتشرت على “الواتساب” هي لأشخاص غير لبنانيين يُطلق على احدهم “الـمايسترو حجازي”.
مسرح لعبة هؤلاء يكون عادة عبر مجموعات (غروبات) على تطبيق “الواتساب” غالبية اعضائها على معرفة بعضهم بالبعض تعرض الدولار وتطلبه وتراهن على هبوطه أو ارتفاعه مقابل آلاف الدولارات. ولكن أكبر هذه “الغروبات” تحت اسم “المعتمدة” الذي يضم أكبر مجموعة من “المافيات” في سوق تسمى سوق “الكشف” أو “القمار”، فيما تقدر قيمة المراهنات فيه بمئات آلاف الدولارات وصولا الى أكثر من مليون دولار، وفق ما يكشف أحد التسجيلات الص
والمشكلة، وفق ما يقول النقيب السابق للصرافين محمود مراد، أن هؤلاء يعرضون في بعض الاحيان جنى أعمارهم ويبيعون ما يملكون من دولارات، حتى ان البعض يستدينون مبالغ أخرى، وعندما يخسرونها تعلو صرختهم وتقع المشكلات بين بعضهم البعض. أما المشكلة الاكبر فإن أحدا لا يردعهم أو يوقف أعمالهم، ورغم أن أعدادهم اصبحت كبيرة، بيد أنهم معروفون للجميع. وإذ استغرب السكوت “المريع” عن عمل هؤلاء وملاحقتهم، طالب باسم #الصرافين القانونيين “بضبط الشارع وسوق سعر الصرف الذي بات يتحكم به هؤلاء، فيما سمعتنا باتت على المحك”.
وشبّه مراد عمل هؤلاء بالمراهنين والمقامرين في سباق الخيل والمقامرين في العاب الميسر. ويطلق على هؤلاء اسم “كشيفة” يراهنون على اسعار الدولار من خلال بيع وشراء العملة الصعبة والمراهنة على انخفاضها أو ارتفاعها في بورصة وهمية. مثلا يضع بعضهم مبلغا من المال يقدر بخمسة آلاف دولار، ولكنه يراهن على مبلغ 100 ألف دولار، فإذا خسر المراهنة يخسر مبلغ الخمسة آلاف دولار. وأخيرا وضع مئات المراهنين هذه المبالغ، على اعتبار أن الدولار سينخفض الى 32 ألف ليرة، ولكن حصل عكس ذلك فارتفع الدولار الى 42 الف ليرة اي بارتفاع نحو 10 آلاف ليرة، بما يعني أن الذين راهنوا على انخفاضه خسروا مئات الملايين وتاليا لم يكن في استطاعة المراهنين اعادة اموال المراهنات الى اصحابها أو الربح الذي جنوه منها، بما أدى الى تواريهم عن الانظار.
البعض رجح أن تكون التسجيلات الصوتية قديمة نوعا ما، ولكن صاحب “شركة حلاوي للصيرفة” محمود حلاوي يؤكد ان انتشارها حاليا “جاء بعدما توقف تعامل شركات تحويل الاموال مع تجار العملات في السوق الموازية، فلجأوا الى أساليب وهمية لجني الاموال من الناس الذين يبتغون الربح السريع، وبعدما كسبوا الملايين “شمّعوا الخيط” وهربوا”.
وفيما سرت شائعات عن وجود صرافين شرعيين دخلوا في لعبة التلاعب بالأسعار والرهانات مع صرافين غير شرعيين، نفى حلاوي الامر مؤكدا أنه “لا يمكن للصراف القانوني والشرعي أن يعمل بهذه الطريقة”، مقدرا حجم تعاملاتهم بملايين الدولارات، بدليل الارقام التي تم تداولها عبر التسجيلات الصوتية التي كشف احدها أن بعض المراهنين باعوا كميات كبيرة من الدولار واحتفظوا بالعملة اللبنانية على أمل أن ينخفض سعر الصرف الى نحو 30 ألف ليرة للدولار، ولكنهم خسروا بعد ارتفاع سعر الدولار”.
وأشيع في اليومين الماضيين أن عناصر من القوى الامنية دهمت مراكز ومكاتب لبعض المراهنين، ولكن حلاوي يؤكد أنه “رغم ذلك لا يزال الوضع على حاله ولا يزال المراهنون يسرحون ويمرحون في الشارع ولا تزال المجموعات أو “الغروبات” التي أسسوها كمنصة رئيسية لأعمالهم على “الواتساب” تعمل”، مرجحا أن “لا قرار سياسيا لوقفهم عن العمل، وكأن الامر مقصود”.
وكانت نقابة الصرافين في لبنان، أوضحت في بيان أن “ورود كلمة “صرافين” في بعض المواقع الإخبارية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحدّثت عن مشاكل مالية تعرّض لها بعض المتعاملين بأعمال الصرافة من دون ترخيص، “لا تمت بصلة إلى الصرّافين الشرعيين المرخص لهم، والذين يمارسون عملهم وفقاً لأصول وشروط المهنة والقوانين المرعية، وهي تَهيب بالسلطات المعنية ضبط المخالفات في ظلّ التفلّت الحاصل”.
وأشارت مصادر النقابة الى أنه “لم يعد مقبولا السكوت عن التفلت في سوق الصيرفة”، لافتة الى أن “اعمال الصرافين الشرعيين المرخصين والمسجلين تقتصر على الصرافين الكبار الحاصلين على ترخيص بتسلم تحويلات مالية وتنفيذها مع الخارج، الى التعامل مع منصة صيرفة، والصيارفة المرخص لهم بأعمال الصيرفة في السوق المحلية، اضافة الى صغار الصيارفة الذين يعملون بصفة وسيط صيرفة مع الفئتين المذكورتين”.
وفيما اعتبرت مصادر متابعة أنه يمكن أن تكون الاخبار المتداولة عن سوق المراهنات مبالغا فيها، لكنها بالتأكيد لا تشمل الصرافين من الفئتين “أ” و”ب”، ورأت أن المشكلة الاساسية التي يجب معالجتها هي في مكان آخر وتتعلق بارتفاع سعر صرف الدولار الذي تساهم عوامل سياسية وأمنية عدة بتفلته. ومن هذه العوامل أن “لا انتخابات رئاسية في الافق، والخلافات الحكومية، والاعتداء على اليونيفيل، وهو امر خطير على امل ان تتم معالجته كما يجب، اضافة الى مضاربات صرافين غير شرعيين ومنصات غير قانونية”… ولكن في مقابل هذه العوامل غير المشجعة، تشير المصادر عينها الى ضخ عشرات ملايين الدولارات من مصرف لبنان سواء رواتب العسكريين والموظفين في القطاع العام والتي ارتفعت كثيرا أخيرا، او بدلات النقل ومنح التعليم التي تُدفع بالدولار على سعر صيرفة، او التعميم 158 الذي يعطي 400 دولار “فريش” لكل مستفيد منه وعددهم قارب الـ 180 الف مستفيد، او عبر منصة صيرفة التي يفيد منها عشرات آلاف اللبنانيين بمبلغ 400 دولار شهريا، رغم ان بعض المصارف لا تقوم بهذه الخدمة كما يجب، وهذا الامر تتم معالجته من مصرف لبنان. يضاف الى هذه العوامل، بدء توافد الوف اللبنانيين والسياح العرب والاجانب، وهذا يعني تدفق ملايين الدولارات. أمام هذا الواقع، ترى المصادر أن “ارتفاع سعر صرف الدولار غير منطقي وغير علمي، ولكن في لبنان السوق تخالف المنطق في معظم الاحيان ويصعب تحليلها”.
المصدر :النهار