في 22 تشرين الثاني 2016، بعد 22 يوماً على انتخابه رئيساً للجمهورية، ترأّس العماد ميشال عون الإحتفال الذي أقامته قيادة الجيش اللبناني في جادة شفيق الوزان مقابل مدخل قاعدة بيروت البحرية، بمناسبة عيد الاستقلال الثالث والسبعين، وهو الاحتفال الذي تمّ تنظيمه بعد انقطاع لعامين متتاليين نتيجة الشغور الرئاسي. على المنصة الرئيسية جلس الرئيس عون وإلى جانبه رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال تمام سلام والرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري. كان من المفترض أن يكون هذا الإحتفال إيذاناً بعودة الشرعية وقرارها إلى قصر بعبدا ولكن دون هذا الأمل كانت هناك إشارات كثيرة أفرغت الرئاسة من مضمونها وأبعدت الشرعية عن القصر وغيّبت قرارها لمصلحة الدور الذي أراده «حزب الله» من الرئاسة والرئيس.
في اليوم نفسه كانت الإشارة الأولى عندما نظّم «الحزب» عرضاً عسكرياً لوحدات مؤلّلة تابعة له في بلدة القصير داخل سوريا ووزّع الصور التي قسمت المناسبة بين جيشين: جيش الشرعية وجيش «حزب الله». عندما فوتح رئيس الجمهورية بالأمر امتنع عن الإعتراض مع علمه أنها رسالة موجّهة إليه وإلى العهد قبل أن يبدأ. لم يكن رفض الإعتراض إلّا من قبيل الإرتضاء بهذا الأمر الذي سيحكم العهد طوال ولايته. حتى الرئيس عون لم يكن «حزب الله» يستطيع أن يقبل رئاسته المتحررة، وحتى الرئيس عون لم يكن يرغب في أن تتحرّر معه الشرعية. منذ تسلم الرئاسة كان ملتزماً بالعلاقة مع «الحزب» الذي اعتبر أنه أوصله إلى القصر بعد عامين ونصف من الفراغ، مراهناً على أنه سيوصل إليه من يختاره بعده، صهره جبران باسيل. لذلك غرقت الرئاسة في مستنقع الإنتظار الطويل ليسلِّم عون البلد إلى الإنهيار وإلى الفراغ ولتسقط معه آخر الرهانات على القدرة على تغيير مسار الطريق الذي حدّد بنفسه مساره نحو جهنّم.
تابع أخبارنا عبر ‘Twitter’
ضمانة لـ»الحزب»
حتى الرئيس عون لم يكن يشكّل الضمانة لـ»الحزب». المواصفات التي يضعها «الحزب» لرئيس الجمهورية واضحة ولا تقبل اللبس والتفسير. أن يكون هذا الرئيس خاضعاً لقرار «الحزب» ليس بحرية قراره وخياره فقط بل بأحزمة الأمان التي ينشئها «حزب الله» من حوله. وربما لو أتيحت الفرصة لـ»الحزب» في العام 2016 لفضّل أن يبقى الفراغ سيد القصر لأنه حتى بانتخاب عون بقي متردداً غير قابل بالمجازفة حتى أصبح انتخابه أمراً واقعاً، نتيجة التحوّل الذي حصل أولاً في موقف «القوات اللبنانية» منه ثم في موقف الرئيس سعد الحريري، على أمل أن يكون عون قادراً على أن يتحرّر من «الحزب» أو يكون متوازناً في السلطة ورئيساً فعلياً للجمهورية، لا رئيساً لـ»التيار الوطني الحرّ» ومسخِّراً العهد لتأمين انتخاب صهره حتى على أطلال الجمهورية.
تقليد النظام السوري
مشكلة «حزب الله» في العام 2016 أنه لم يكن يستطيع أن يفرض الرئيس الذي يريده كما كان يحصل أيام الإحتلال السوري للبنان بعد العام 1989 بدءاً بانتخاب الرئيس الياس الهراوي. الرئاسة ليست وحدها الهدف ولا يمكن أن يأمن «الحزب» لأيّ رئيس كما كان النظام السوري لا يأمن أيضاً لأي رئيس. في العام 1981 مثلاً لم يقبل النظام السوري بأن يدخل الرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة في ظلّ مجلس نواب 1972، على رغم تطعيمه بالنواب الذين تمّ تعيينهم لزيادة العدد إلى 128 نائباً. فرض بانتخابات العام 1992 تغييراً كاملاً في الطبقة السياسية بعدها سمح بترؤس الحريري أوّل حكومة له، ولكن ضمن ضوابط تم فرضها أمنياً وسياسياً وحكومياً عبر تسمية الوزراء وتوزيع الحقائب. وعندما حاول الحريري أن يخرج من تحت العباءة السورية وعباءة «حزب الله» ليشكّل حالة سياسية يمكن أن تنقلب على نتائج انتخابات 1992 في العام 2005، تمّ اغتياله.
الرئيس الذي يريده «حزب الله» يشبه الرئيس أميل لحود ولكن أيضاً مع ضوابط. لحود لم يكن الرئيس الذي يمثّل قرار الشرعية بقدر ما كان يمثل الرئيس الذي أعطى للنظام السوري ولـ»حزب الله» أكثر مما يريدان وزايد عليهما في العطاء، ولذلك أعطاه الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله مثلاً على الرئيس الذي يريده والذي لا يمكن أن يطعن المقاومة في ظهرها. أكثر من ذلك كان لحود ظهراً لـ»الحزب». ومثله فعل ميشال عون واستحق وسام التقدير الآخر من السيد حسن.
فلحود لم يكن آتياً من عائلة مارونية ملتزمة سقف الكنيسة ورؤيتها للبنان الدولة والكيان. ولم يكن يمثّل أي شعبية. بعد انتخاب الرئيس رينيه معوض تسلل من «المنطقة الشرقية» حيث كان يقيم إلى «بيروت الغربية». بعد اغتيال معوض وانتخاب الياس الهراوي تمّ تعيينه قائداً للجيش وعندما تمّ التمديد للهرواي في العام 1995 طلب رئيس النظام السوري حافظ الأسد من الهراوي أن يتمّ التمديد أيضاً للحود، وعندما حان موعد انتهاء ولاية الهرواي الممدّدة صدر القرار السوري بانتخاب لحود ونُفِّذ القرار.
تجربة سليمان فرنجية
حتى رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية لم يكن طريقه معبداً إلى قصر بعبدا وهو يسير اليوم في هذا الطريق، معتبراً أنّه يمكن أن يحصل على دعم «حزب الله» مرشحاً وحيداً كما كان «الحزب» تعهّد لميشال عون، ولكن ثمة فوارق بين المسألتين: مسألة دعم عون ومسألة دعم فرنجية. لو كان «الحزب» يستطيع أن يفرض الرئيس الذي يريده ربما ما كان ليختار فرنجية، ولذلك يمكن أن يكون عدم إقدامه على الإعلان أنه مرشّحه يخفي نيّته في أنّه ربما كان يفضِّل رئيساً غيره، وربما كان أعاد انتخاب أميل لحود لولاية جديدة.
طالما اعتبر فرنجية أنه مرشح طبيعي باسم «الخط» الذي يعلن أنه فيه ويمثِّله ولا يخرج منه ولا عنه وهو «خط الممانعة» أو «خط فريقنا» كما يسمّيه. ولكنّه دائماً يربط حلمه الرئاسي بالظروف التي يمكن أن تجعل منه رئيساً. وهو لذلك يتصرف بطريقة واقعية ويحاول أن يساهم في خلق هذه الظروف أو في أن يكون حاضراً لها عندما تحين، مع أن هذه الظروف كانت مؤاتية أكثر من مرة من دون أن تؤاتيه ليكون رئيساً نتيجة تمسّكه هو بالخط وعدم تمسك «الخط» به ووجود خيارات أخرى لديه غيره.
في العام 1998 مثلاً عندما حان وقت انتخاب رئيس جديد للجمهورية كان يمكن أن يكون سليمان فرنجية هو الرئيس باعتبار أنّ القرار كله كان في يد النظام السوري، وكانت المسألة سهلة ولا تحتاج إلى أي تدخّل آخر أو إلى الإستعانة بصديق أو غير صديق. وكانت الحجّة وقتها أنه لم ينضج بعد ولم يبلغ السن المؤهّل للرئاسة، وأقصى ما كان يمكن أن يحصل عليه إشراكه في الحكم عن طريق النيابة والوزارة. ولذلك كان قرار الأسد بترئيس لحود.
في العام 2004 اعتقد فرنجية أنّ مؤهلاته باتت تسمح له وكان القرار في يد النظام السوري و»حزب الله» بشكل كامل. وعندما ظهر أنّ هناك اعتراضاً دولياً على التمديد للحود سأل فرنجية الرئيس السوري بشار الأسد عن إمكانية الخروج من خيار لحود الذي يمكن أن يلقى معارضة دولية والذهاب نحو اختياره هو، ولكن الأسد كان حازماً في التمديد للحود على قاعدة أنّ الوقت حرج جداً ولا يمكن أن يجرِّب رئيساً آخر غير لحود، الذي تمّ تجريبه وأثبت أنه خير رئيس لتأمين بقاء النظام السوري في لبنان وحماية ظهر «حزب الله».
إنقلابات عسكرية وسياسية
في العام 2007 بعد انتهاء ولاية لحود ونتيجة انقلاب الموازين بعد الإنتخابات النيابية في العام 2005 لم يكن قرار انتخاب رئيس جديد للجمهورية بيد النظام السوري الذي سحب جيشه من لبنان، ولا بيد «حزب الله» الذي كان يبحث عن طريقة يحمي بها ظهره. بعد تفاهمه مع «التيار الوطني الحر» وبعد «حرب تموز» واحتلال وسط بيروت والمطالبة باستقالة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وبعد عملية احتلال العاصمة والهجوم على عاليه والشوف والحزب «التقدمي الإشتراكي» في 7 ايار 2008، وبعد الذهاب إلى الدوحة والتفاهم على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وعلى قانون الإنتخاب وعلى تشكيل حكومة جديدة يحصل فيها «حزب الله» و»التيار» وحلفاؤهما على الثلث المعطل، لم يكن خيار «الحزب» سليمان فرنجية بل كان ترشيح العماد ميشال سليمان هو المخرج. ولكن التجربة مع الرئيس سليمان جعلت «الحزب» يندم على هذا الخيار ولذلك صار يعطيها مثلاً عن الرئيس الذي لا يريده.
لم يكن فرنجية وحده الذي كان يريد أن يجعله «حزب الله» رئيساً بل كان العماد ميشال عون أيضاً. الوعد بالرئاسة انتقل من العام 2008 إلى العام 2014 وكان على «الحزب» أن يختار أيضا بين عون وبين فرنجية. بطيبعة الحال كان يجب أن يمثّل فرنجية المثال الذي يريده «الحزب» لأنه كان في «الخط» قبل عون ولأنه لا يمثّل أي خطر بالخروج عنه. ولكن على رغم ذلك لم يرشحه الحزب ولا خاض هو شخصياً معركة رئاسته. بقي في الخط الخلفي منتظراً أن تكون هناك «خطة ب».
ولكن لا عون كان قابلاً بالتنازل ولا «حزب الله» كان يريد أن يفتح طريق قصر بعبدا لغير عون. فهو لم يكتف بانقلاب 8 ايار فقط. وعندما خسر في الإنتخابات النيابية عام 2009 انقلب على تفاهم الدوحة وعلى الرئيس سعد الحريري وأنجب حكومة كاملة المواصفات في الولاء له ولتحالفه مع «التيار الوطني الحر» برئاسة نجيب ميقاتي، ولكنها تجربة انتهت إلى فشل ذريع كما التجربة التي حصلت مع الرئيس سليم الحص وحكومته في العام 1998 ثم مع الرئيس عمر كرامي وحكومته في العام 2004 وقبلها في العام 1992.
حتى عندما فتح سليمان فرنجية خطاً واسعاً مع الرئيس سعد الحريري واعتقد أنّ الرئاسة باتت في جيبه بعد اتصال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند به هاتفياً، لم يوافق عليه «حزب الله». طبعاً لم يكن «الحزب» يعتقد في أي لحظة أن خيار انتخاب عون سيكون متاحاً. ولم يكن يعرف أو يتوقع أن يحصل التحوّل الكبير من ترشيحه في معراب ومع ذلك لم يفتح الطريق لانتخاب سليمان فرنجية. صحيح أن عون أمّن له حماية ظهره طوال عهده وضحّى بكل من ساعده على الوصول إلى الرئاسة، ولكنه في نهاية الأمر انتهى عهده إلى مأزق لـ»حزب الله».
انتخابات 2022 كانت بمثابة علامة استفهام كبيرة. اعتقد «الحزب» مع عون أنهما يستطيعان تأمين الأكثرية النيابية ولكن هذا ما لم يحصل حتى لو لم تكن الأكثرية الواضحة مؤمَّنة للقوى الأخرى السيادية والتغييرية. ولذلك هو يعد سليمان فرنجية اليوم بما لا قدرة له على إعطائه إياه. حتى جبران باسيل لا يعترف بأحقية فرنجية على رغم أن نصرالله تدخل شخصياً في الموضوع وجمع الرجلين ثم التقى باسيل ليُفهمه أنه لا يمكن انتخابه وأن الأفضل انتخاب فرنجية. ولكن باسيل لا يقبل إلا باسيل وفرنجية ينتظر أن تتأمن الظروف التي تحدث عنها دائماً.
أي رئاسة لأي استقلال؟
في استقلال 2022 غاب الإحتفال. لم يحصل لا في وزارة الدفاع ولا في جادة شفيق الوزان. وغاب أيضاً احتفال «حزب الله» الذي لم يحصل لا في القصير ولا في غير القصير منذ العام 2016. احتفال واحد كان يكفي لإيصال الرسالة إلى العهد الذي انضوى تحت لواء الإحتفال الثاني. صحيح أن «حزب الله» أعلن مواصفات الرئيس الذي يريده ولا يمكنه أن يوصله. ولكنه يعرف الرئيس الذي لا يريده ويرفضه. ويبقى الفراغ بالنسبة إليه أفضل من أي رئيس آخر حتى إشعار آخر. ولذلك تبقى رئاسة سليمان فرنجية معلّقة لأنّ الطرق الأخرى التي يمكن أن توصله إمّا مقفلة وإمّا أنّه لا يمكنه سلوكها لأنّها تقفل عليه طريق «حزب الله».