في زمن الأزمة الإقتصادية والمعيشية الخانقة، لم تعد الكعكة مجرّد «إفطار» أو «عصرونية» يتناولها المواطنون غداة كلّ صباح، بل تحوّلت إلى وجبة طعام رئيسية بديلة عن الغداء، مع ارتفاع الأسعار والغلاء الذي طال كل شيء إرتباطاً بالدولار الأميركي، بدءاً من منقوشة الزعتر والجبنة، مروراً بالفلافل وصولاً إلى الفول والحمص وتوابعهما.
عند أحد أرصفة السوق التجارية في شارع الأوقاف المتفرع من ساحة «النجمة» في صيدا، يقف الصيداوي محمود بعاصيري خلف عربة متحرّكة أطلق عليها اسم «أبو البنات»، عارضاً كعكه للبيع، وقد اختار الطرابلسية منها نظراً للإقبال الكثيف عليها ولقلّة بائعيها بخلاف الكعكة «العصرونية» التي تنتشر عرباتها في مختلف أرجاء المدينة وأسواقها الشعبية وصولاً إلى أحياء صيدا القديمة.
يشرح بعاصيري سبب إطلاقه اسم «أبو البنات» على العربة، ويقول لـ»نداء الوطن»: «لأنه لدي بنتان فقط دون شباب، ولأن الاسم أحياناً يجذب الزبائن، يستفسرون عنه وسبب تسميته ثم يشترون الكعك»، مشيراً إلى أنّ «عائلتي صغيرة مؤلفة من الزوجة والبنتين… ورغم ذلك أنوء بتأمين مصاريف الحياة بسبب الغلاء الفاحش وارتباط الأسعار بالدولار الأميركي الذي يحلّق كلّ يوم علوّاً، ليزيد من سقوط الناس نزولاً في القعر».
وبعاصيري «أبو البنات» إحترف المهنة منذ ثلاث سنوات فقط مع بدء الأزمة المعيشية، كان يبيع «قهوة إكسبرس» في المكان، ولكن مع ازدياد العاطلين عن العمل وكثرة العاملين فيها تحوّل إلى بيع الكعك واختار «الطرابلسية» منها وليس «العصرونية» ويقول «لقد دخلت الكعكة الطرابلسية إلى صيدا منذ عشر سنوات فقط، نحن مشهورون هنا بـ»العصرونية»، والناس بطبعهم يحبون كل جديد»، مضيفاً أنه «يبيعها سادة بـ9 آلاف ليرة وبالجبنة المميزة 40 ألفاً، وبالمرتديلا 40 ألفاً ومع الجبنة أو الشوكولا كذلك بالسعر ذاته، لأننا من الفقراء ونشعر بالناس وبأوجاعهم».
ويكشف طول أمد الأزمة، كيف يحاول الصيداويون وخاصة الفقراء والعائلات المتعففة منهم، التأقلم مع تداعياتها والبحث عن البديل لا الأصيل في مختلف نواحي الحياة، ويقول بعاصيري «اللافت في البيع أنّ كثيراً من الناس باتوا يقصدونني عند «الظهيرة» لتناول كعكة بالجبنة والمرتديلا بخلاف السابق صباحاً كنوع من الفطور أو عصراً كـ»السناك»، هؤلاء أصبحوا يعتبرونها وجبة غداء رئيسية بدلاً من السندويش على أنواعه واختلافه وأرخصه بـ80 ألف ليرة أو المنقوشة بالجبنة بـ60 ألفاً، وتبقى الكعكة أفضل من المنقوشة بالزعتر رغم أنها أرخص بـ25 ألف ليرة لبنانية.
ويقوم بعاصيري بإعداد الكعكة بإتقان، يضع الجبنة المنقوعة بالمياه، يضعها في «المحمصة – ساب»، التي تعمل بالغاز حتى تسخن وتذوب وتصبح شهية، قبل أن يقدّمها إلى الزبون بكل محبة، ويقول «الفقر ليس عيباً وإنما العيب على المسؤولين الذين لم يعالجوا مشاكل الناس حتى اضطروا إلى استبدال الطعام بأقل منه… هذا إن وجدوه، لقد تركوا الناس هائمين على وجوههم، أموالهم محتجزة في المصارف ويختارون الموت عبر البحر على البقاء على قيد الحياة فقراء».