قرش لبنان الأبيض الذي “خبّأه” ذهباً أصفر خالصاً في سبعينات القرن المنصرم، لا يستطيع استخدامه في يومه الأسود الحالي. السبب، لا يعود إلى القانون الصارم رقم 42 الصادر في العام 1986 الذي “يمنع منعاً مطلقاً التصرّف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان”. إذ إنّ “القانون يمكن تغييره بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب”. إنما لفقدان الثقة بالإدارة السياسية والنقدية في البلاد. والخشية من ضياع هذه الثروة، كما ضاعت قبلها ودائع بأكثر من 130 مليار دولار.
وجود ثروة ذهبية تقدّر قيمتها بحسب أسعار اليوم بحوالى 15.472 مليار دولار (9 ملايين و221 ألف أونصة * 1678 دولاراً) كانت لتكون نعمة في حال أحسن استخدامها. فمن السهولة بمكان رهن نسبة من الذهب أو حتى تأجيرها، وتأمين مبالغ نقدية كبيرة، لبنان بأمسّ الحاجة إليها لإعادة تشغيل عجلة الاقتصاد من دون تضييع الأصل. أمّا في مثل الظروف الراهنة، فإن العملية ستكون محفوفة بالمخاطر. وقد تكون نقمة على لبنان واللبنانيين.
الرهن محفوف بالمخاطر
من الأشكال المتعارف عليها للاستفادة من الذهب هي مقايضته بمبالغ نقدية من ضمن ما يعرف باتفاقيات إعادة الشراء التمويلية والقرض المضمون. حيث يستلم مصرف لبنان الحامل للذهب المبلغ النقدي، ويتحمّل مسؤولية إعادة شراء الذهب بسعر ثابت في تاريخ محدد. أما في حال التخلف عن السداد في المهل الموضوعة فيخسر لبنان الكمية المرهونة من الذهب، ويعجز عن استرجاعه. فيصبح وكأنه قد باع الذهب”، تقول الباحثة والمستشارة المالية مارغريتا شامي. وما يزيد من مخاطر التخلف عن السداد هو إمكانية إنفاق مصرف لبنان النقود على الدعم المباشر للسلع والخدمات (قمح، الرواتب والأجور، الأدوية، الفيول للكهرباء، مصاريف طارئة للدولة بالنقد… وغيرها الكثير).
التأجير
الطريقة الثانية للاستفادة من الذهب تكمن في تأجيره في أسواق التداول العالمية مقابل سعر إيجار يعرف بـ”معدل إيجار الذهب” GLR (gold lease rate). ويمكن بهذه الحالة أن يحقق الذهب عائداً أقصى يقدر اليوم بحسب الشامي بحوالى “151 مليون دولار سنوياً”. وهنا تكمن الخشية أيضاً من العجز عن استخدام هذه العوائد لتوليد الإرادات واستغلال الأموال لتغطية الخسائر السابقة، من دون أن يكون هناك خطة اقتصادية محكمة تضمن العدالة في التوزيع وحسن الإدارة. وهو الأمر الذي يعمّق الأزمة بدلاً من أن يحلّها.
إحتياطي مشكوك به
تأجير الذهب سيؤدي إلى منع الاعتراف به كأصل استراتيجي يمكن استخدامه لتحسين موقع لبنان التفاوضي مع الجهات الدائنة. فصندوق النقد الدولي يحتسب الاحتياطيات الموجودة، سواء أكانت أصولاً أم نقداً صعباً، في عمليات التقييم والتحقق. وكلّما تناقصت هذه الاحتياطيات تراجعت المبالغ التي يمكن للبنان الحصول عليها. لأنه ببساطة تتراجع الضمانات. ولهذا يحرص المسؤولون اللبنانيون على التأكيد دوماً أن احتياطي النقد الصعب يبلغ 30 مليار دولار. آخرهم كان نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي، الذي أشار إلى هذا الرقم من مقر الاتحاد العمالي العام. إلا أنّ الاحتياطي قد لا يتضمّن بالضرورة وجود الأموال نقداً في خزائن المركزي بل قيوداً. بمعنى أن “ليست كل المبالغ التي يجري الحديث عنها متوفرة بالضرورة نقدياً في المركزي إنما أحياناً على شكل استثمارات في سندات دين أجنبية، تقول الشامي. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه بوضوح في ميزانية العام 2018 للمركزي. حيث يظهر امتلاكه سندات بقيمة تتجاوز 2 مليار دولار”. ومن الممكن بحسب الشامي أن “يكون المركزي قد استخدم التوظيفات الإلزامية في هذه العملية. خصوصاً أن الأخيرة تدرج في خانة الخصوم وليس الأصول. وعليه تظهر في الاحتياطيات إنما قد تكون مستعملة أو منفقة على أمور مختلفة. ومن غير المعروف إن كان المركزي استردّ الأموال التي استحقّت العام الماضي. ذلك أنه لا يوجد لغاية اليوم أي رقم يظهر موجوداته الحقيقية. كما أن التدقيق المطلوب من الخطط المتعاقبة لم ينجز بعد.
أمام هذا الواقع يتوقّف المتابعون أمام مسألتين أساسيتين: تتعلّق الأولى بالسؤال عن إمكانية استثمار المركزي جزءاً من الذهب خلال السنوات الماضية بشكل غامض. والثاني الخسائر التي تحمّلها مصرف لبنان نتيجة نيله فوائد قليلة جداً على توظيفاته بالمقارنة مع التي كان يدفعها للمصارف. وبرأي الشامي فإنّ هذه الخسائر يجب أن تسجل في المطلوبات إنما المركزي يستمر بتسجيلها كأصول في ميزانيته. وإن كانت قواعد العمل الدولية تسمح بذلك إنما لفترة محددة في حين يستمرّ فيها مصرف لبنان منذ فترة طويلة.
هل يستخدم الذهب قريباً؟
“طالما أن المصرف المركزي يستطيع الاستمرار بطبع الليرات وجمع الدولارات من السوق لزيادة احتياطي النقد الصعب بين يديه، فإن استعمال الذهب سيبقى مؤجلاً”، برأي الشامي. إلا أنه في حال فقدان مصادر العملة الأجنبية كلياً بعد فترة، وفي حال عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي فإن استخدام الذهب يصبح أمراً مرجحاً.
في الوقت الذي ينص فيه قانون النقد والتسليف على وجوب الاحتفاظ بأصول الذهب والعملة الأجنبية بما لا يقل عن 30 في المئة من إجمالي الأموال المتداولة والودائع الجارية وقصيرة الأجل للبنوك، يظهر أن انفلاش الكتلة النقدية واحتمال توسعها أكثر يعرض هذه المعادلة للخطر. خصوصاً إذا اعتمدت خطة الحكومة مع ما تتضمنه من توسّع في طباعة النقد لتسديد الودائع. وهو الأمر الذي يؤثر سلباً على ضمان التغطية الآمنة للعملة اللبنانية.