خالد أبو شقرا – نداء الوطن
«لأن المصائب لا تأتي فرادى»، على حد القول المنسوب إلى المتنبي، يكاد اللبناني «لا يصحو من مصيبة، إلا ويجد الاخرى متشبثة بها». ظاهرة توالد المشاكل من بعضها البعض، بما تمثل من سمة طبيعية مرافقة للأزمات التي لا تعالج، برزت بأبشع صورها بتفشي الكوليرا. حيث ولد من رحم انعدام الكهرباء، وإفقار البلديات، وعدم تنظيم إقامة النازحين السوريين في المخيمات، «طفل» توقف الخدمات الصحية «الهجين». فتحول البلد إلى بؤرة كبيرة لتفريخ الأمراض والأوبئة، والعجز عن احتوائها.
أدى الانقطاع المتواصل في الكهرباء إلى تحول عدد كبير من معامل تكرير الصرف الصحي في الجبال وبمحاذاة الانهار إلى «جور» غير صحية. والمياه الآسنة التي تتجمع فيها من قرية واحدة أو مجموعة قرى، أصبحت تصرّف في السواقي والانهار من دون تكرير ومعالجة. الامر نفسه ينسحب على معامل معالجة النفايات التي جرى التوسع باعتمادها من البلديات واتحاداتها، عقب انفجار أزمة النفايات في العام 2015. إذ تحولت هذه المعامل، خصوصا تلك التي تقع على ارتفاعات 600 متر وما فوق، إلى مطامر غير صحية تهدد عصارتها بالتسرب إلى المياه الجوفية ونشر التلوث والاوبئة. في المقابل تعجز معظم البلديات، التي تعتمد على مصادر مياهها الخاصة، عن تشغيل محطات تكرير مياه الشفة، التي تصل عبر الشبكات إلى البيوت. فلا كهرباء لتشغيل أجهزة معالجة المياه بالاشعة ما فوق البنفسجية، ولا قدرات مادية لتعقيمها بالكلور وتغيير الفلاتر بحسب ما تفرضه المقاييس العالمية. أما بالنسبة إلى مصالح المياه الوطنية فالامر ليس أفضل حالاً إذ تعجز الاخيرة عن تأمين أبسط متطلبات توفير المياه بالجودة المطلوبة إلى مشتركيها. الامر الذي يدفع المواطنين إلى شراء صهاريج المياه المعبأة من مصادر مشكوك بنظافتها، وشراء المياه المكررة عشوائيا للشرب. ما يفاقم التكلفتين الاقتصادية والصحية إلى مستويات كبيرة جداً.
تعطل محطات التكرير
بعد انتهاء الحرب عمدت جهات دولية مثل: «الصندوق الكويتي للتنمية الإقتصادية العربية»، «مفوضية المجموعة الأوروبية»، «الوكالة الفرنسية للإنماء»، و»الدولة الايطاليا»… وغيرها من الجهات، إلى تمويل مشاريع إقامة محطات تكرير الصرف الصحي. وقد بلغ عدد المحطات المنشأة من قبل مجلس الانماء والاعمار 23 محطة، إضافة إلى تأهيل 4 محطات قائمة. «وقد حرص الممولون الدوليون، ولا سيما منهم الاوروبيون على تنفيذ هذه المشاريع وضمان استمرارية عملها بكفاءة عالية لحماية البحر الابيض المتوسط من التلوث»، بحسب مفوض الحكومة السابق في مجلس الانماء والاعمار، وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية د. وليد صافي. فيما مولت الصناديق العربية بقية المشاريع لرفع التلوث وحماية مصادر المياه الجوفيه، ومنها مثلا: محطات نبع الصفا، الباروك، وغيرها».
توقف هذه المحطات التي كلفت ما يناهز 350 مليون دولار عن العمل لا يشكل خسارة اقتصادية فحسب، إنما «كارثة بيئية»، لا تنحصر مفاعيلها السلبية بحسب صافي، «في تلوث مصادر التنوع في البحر المتوسط، إنما أيضاً تهديد الثروة النباتية والزراعية ومصادر المياه الجوفية محلياً». وبالتالي زيادة الامراض والاوبئة وتعريض صحة المواطنين للمخاطر، وفرض كلفة صحية واستشفائية عالية، أعجز من أن نتحملها في مثل هذه الظروف التي يمر بها لبنان. وبحسب صافي، فان أساس هذه المشكلة ينقسم إلى شقين:
الاول، غياب التخطيط. والذي تكرس مع الخطأ الجسيم المرتكب في العام 1977 بالغاء وزارة التخطيط.
الثاني، الفشل التاريخي في إدارة قطاع الطاقة. ذلك أن المرجعية القانونية لكل محطات الصرف الصحي ومحطات المياه وغيرها هي وزارة الطاقة.
المشكلة هنا لا تنحصر في عجز الوزارة عن توفير الكهرباء إنما عن تأمين أكلاف تشغيلها وصيانتها وتأمين قطع الغيار وأجور العمال… وخلافه من المواضيع التي لم تعطَ أي أهمية، ولم يوضع تصور بديل لكيفية التعامل معها منذ انفجار الازمة. ففي الوقت الذي هدر فيه أكثر من 20 مليار دولار على الدعم الذي ذهب سرقة وتهريباً كان الاجدى من وجهة نظر صافي «استعمال بعض الاموال لضمان تشغيل هذه المعامل، لان كلفتها الاقتصادية لا تنحصر بالتلوث الآني الناتج عن تعطلها، أنما بالمخاطر الصحية والاجتماعية المستقبلية وضرب سمعة لبنان. وهي كلها آثار تظهر نتائجها على فترة بعيدة المدى.
تعطيل الطاقة الممنهج
تعطيل وزارة الطاقة لم يقف عند حد عجزها الفاضح عن تأمين الكهرباء لتشغيل المحطات والمرافق الحيوية والاساسية في البلد، إنما تعداه إلى رفضها كل الحلول المنطقية التي عرضت عليها لتخفيف التلوث عن مجاري الانهار. ففي العام 2019 تقدمت مصلحة مياه الليطاني بطلب الزام جمعيات النازحين بتركيب وحدات معالجة مؤقتة للصرف الصحي لمخيمات النازحين. وقد أصدر القاضي المنفرد الجزائي في زحلة بتاريخ 9/7/2019 قراراً قضى بالزام «مؤسسة الرؤية العالمية»، بإنشاء محطة تكرير مخصصة لتنقية مياة الصرف الصحي، في كل مخيم من المخيمات التي أنشأت على ارضها حمامات ضمن نطاق قضاء زحلة. وذلك خلال مهلة شهر من تبلغها القرار. وقد أكد القضاء على قراره ذلك بأن تكون هذه المحطة من النوع المتحرك بحيث يمكن نقلها والاستفادة منها عند الانتهاء من تنفيذ مشروع محطة المرج، وسيتم وضعها إلى جانب الارض المخصصة لبناء محطة المرج فيستفاد من الشبكة التابعة لها بوصلها بالمحطة الثابتة. وقد ألزم تركيب هذه المحطة نظراً للجدوى الكبيرة لها من حيث التخفيف من كمية الصرف الصحي المتدفقة من مخيمات النازحين السوريين مما يساهم في تحسين نوعية مياه نهر الليطاني.
المفاجأة كانت في رفض وزيرة الطاقة آنذاك ندى البستاني القرار، وعرقلت تنفيذه بحجة ان «المحطة المقترحة تعتبر هدراً للاموال العامة وتشكل ازدواجية مع المشروع الاساسي». وبحسب الكتاب المرسل من الوزارة إلى مصلحة الليطاني فان هذه «المحطة تتناقض مع الاستراتيجية الوطنية للصرف الصحي والمخطط التوجيهي المعد لمعالجة المشكلة التي تفوق مشكلة الصرف الناتج عن النازحين». وقد اعتبرت الوزارة أن سياستها الحالية تعتمد على انجاز الحلول الكاملة والجذرية بعيداً عن الحلول الآنية ذات الكلفة العالية، (…)». من ثم قامت محكمة الاستئناف الجزائية بفسخ هذا القرار.
تسريع انتشار وباء الكوليرا
وعليه أجهضت كل الحلول، التي كان من شأنها تخفيض التلوث سابقاً والحد من سرعة انتشار وباء الكوليرا حالياً. خصوصاً، ان هذا الوباء الذي ينتشر بسرعة وبنسبة كبيرة في مخيمات النازحين السوريين يعرض نهر الليطاني لهذه البكتيريا. وبالتالي انتقال العدوى إلى عدد هائل من المناطق والمساحات المروية من مياهه. فبحسب الاحصاءات يتبين وجود 974 مخيماً في منطقة الحوض الاعلى للنهر، تضم حوالى 11466 خيمة، وبعدد تقديري يبلغ 68645 نازحاً سورياً. وتقدر كمية المياه العادمة في الحوض الأعلى التي تصرف بالنهر من دون معالجة بنحو 2،104،655 متراً مكعباً سنوياً. وتبلغ في الحوض السفلي حوالى 135 ألف متر مكعب سنوياً (بناءً على متوسط استهلاك النازحين 84 ليتراً في اليوم). أما بالنسبة إلى النفايات الصلبة التي ترمى في النهر، فهي تقدر بحسب آخر الدراسات بحوالى 173 طناً يومياً في الحوض الاعلى، و145 طناً باليوم في منطقة الحوض السفلي. في المقابل تبلغ المساحات التقديرية للأراضي الزراعية الواقعة ضمن مسافة 2 كلم من جانبي النهر حوالى 8396 هكتاراً، أكثر من 1000 هكتار منها تروى من النهر والروافد مباشرة. أي من مياه ملوثة بالصرف الصحي بنسب متفاوتة.
الحلول موجودة
أمام هذه الاخطار المتفاقمة برز طلب اليونيسف من مجلس الانماء والاعماء إدارة 13 محطة لتكرير مياه الصرف الصحي، فيما ستدير UNDP محطة زحلة. أما بخصوص بقية محطات التكرير ومعامل فرز النفايات، فقد رأت المصلحة أنه يقتضي اعلان خطة طوارئ للتوزيع بخصوص استدامة تأمين الطاقة للمرافق العامة تشمل :
اعلان خطة طوارئ للتوزيع باشراف رئاسة مجلس الوزراء تنص على وضع كافة مصادر الطاقة المنتجة بتصرف المرافق العامة (محطات الضخ – محطات التكرير – السنترالات الاساسية – مطار بيروت – مرفأ بيروت – مرفأ طرابلس – وزارة الدفاع – سجن رومية). وعدم تغذية المخارج للمناطق الا بحدود ثبات الفولطية على الشبكة العامة.
الزام كافة الجهات المنتجة للطاقة بتنظيم تقرير يومي وايداعه رئاسة مجلس الوزراء حول كمية الطاقة المنتجة وكيفية توزيعها على خطوط التوتر المتوسط والتوتر العالي.
في سبيل ضبط التوزيع للمرافق العامة، تكليف كهرباء لبنان بفصل المخارج التي قد تؤدي الى تغذية احياء مع المرافق العامة.
كما طالبت المصلحة من محافظة البقاع باعادة العمل والتشغيل والصيانة في مطمر جب جنين. وذلك بالتنسيق معها بغية توسعته وتزويده بالطاقة الكهرومائية من خطوط معمل عبد العال لضمان استمرارية عمله.
أمام كل هذه التحديات لا عجب أن تنتشر الكوليرا بهذا الشكل، ويتحول لبنان إلى بؤرة أمراض ينفر منه من بقي في الداخل وكل الخارج. بيد أن المؤسف أن كل هذه المشاكل كان بالامكان حلها وبكلفة منخفضة جداً مقارنة مع أكلافها اليوم فيما لو اتخذت القرارات الصحيحة… وهذا ما لم ولن يحصل.