“ثروة الأجيال” أو الحلم الذي طال انتظاره، غدا في متناول اللبنانيين، بعد عبور شاق في مسارب السياسة المحلية ووحولها، والنكد المتبادل بين أهل السلطة من جهة، ومع المفاوض الإسرائيلي عبر الوسيط الأميركي والأمم المتحدة من جهة أخرى، ليبقى الرهان على ترجمة الحلم الأكبر وربما الأهم، وذلك ببناء إدارة جدية لعائدات “الثروة” العتيدة، تعمل بشفافية إدارية ومالية عالية، وبذهنية إستثمارية علمية وعملية لتطوير القطاع المستجد، وبضمير وطني، وحسّ إنساني يُعلي المصلحة الوطنية التي حان دورها، على مصالح “الذئاب” السياسية التي تترصد كعادتها في استغلال المال العام، اللحظة التي ستنقضّ فيها على العائدات المنتظرة لتتوزعها بين بعضها البعض مغانم وتنفيعات للأزلام والمحاسيب، والطوائف والمذاهب والمناطق، “ومرّقلي تا مرّقلك” كسالف سلوكهم الجشِع الذي قصم ظهر الاقتصاد.
ربما لبنان أمام فرصة تاريخية وحيدة بقيت له، فصداقات السياسة والعلاقات الدولية والأخوية، ما عادت بالكرم أو الاهتمام كالسابق، والأسواق العالمية تعمل تحت وطأة نصف حرب عالمية، والأفق يزداد ظلاماً ورعباً مما قد يأتي. وإذا كانت حاجة أوروبا القصوى الى غاز “كاريش” في الشتاء المقبل، والدور الأميركي الساعي “لتدفئة” القارة العجوز سرّعا الاتفاق، فإن السنوات المقبلة قد لا تكون زبدة العائدات بالحجم المأمول والمطلوب لبنانيا، لأن خطوط غاز أخرى ستضخ الى أوروبا حاجتها، ناهيك عن المشاريع الضخمة التي بدأت للإعتماد على الطاقة المتجددة في جميع أنحاء المعمورة بعدما عانى الاقتصاد العالمي من نقص الوقود وغلائه الفاحش، وبعدما استفاقت الحكومات على ضرورة تحرير تبعيتها النفطية قدر الإمكان والسعي للإكتفاء الذاتي.
فهل لا يزال لدى لبنان حصة في الاسواق العالمية، خصوصا أن اسرائيل بدأت مرحلة الانتاج وتاليا يمكن أن تكون قد حجزت حصة كبيرة لها في الاسواق العالمية؟ كما أنه امام الاكتشافات العلمية على صعيد الطاقة في كل من المانيا والسويد وهولندا والتي حققت نقلة نوعية في الاستغناء عن الغاز، فإن السؤال: ماذا سيبقى من القيمة السوقية لقطاع النفط والغاز في لبنان؟ مصدر في هيئة ادارة قطاع البترول، لم يشأ الدخول في تفاصيل هذه التوقعات أو التكهنات، مكتفيا بالقول لـ”النهار” إن أوروبا في حاجة ماسة للغاز، فيما الشركات العالمية التي تضع خططا للانتقال الى الطاقة المتجددة سوف تبقى تستخدم الغاز حتى الـ 2050. وقال: “من البديهي أن تسبقنا اسرائيل في ايجاد الاسواق، خصوصا أنها تجاوزت مرحلة الاستكشاف وأصبحت في مرحلة الانتاج”، مطمئناً الى أن “المنظومة التشريعية جاهزة، وتاليا ستسير الامور من دون معوقات بإذن الله”.
ولكن المؤرخ والباحث في قضايا ترسيم الحدود عصام خليفة، وانطلاقا من ايمانه بفساد المنظومة الحاكمة، لا يعوّل على امكان افادة لبنان من “الثروة النفطية” المنتظرة، ويؤكد أن “لا سياسة نفطية عقلانية أو وطنية، والامر يقتصر على الاحتيال والسرقة”، مستندا الى قانون النفط الذي كان يلحظ شركة وطنية لتملّك الاستثمار النفطي وإدارته، ولكن جاء المرسوم 43 ليلغي هذه الشركة وينيط الامر بشركات خاصة توزَّع بالمحاصصة. ولكن بصرف النظر عن كل هذه الوقائع، يشير خليفة الى أنه “اذا كان ثمة ارادة للشروع في انجاز الملف النفطي بطريقة شفافة، يمكن أن يستفيد لبنان من ثروته، وإن كانت كل هذه الامور مرتبطة بالسياسات الدولية والاقليمية”.
وبغضّ النظر عن بنود اتفاق ترسيم الحدود البحرية التفصيلية والإشكاليات التي قد تسببها بعض هذه البنود، يعتبر خليفة ان التوقيع على الاتفاق “نقطة تحوّل تاريخي ليس في مسار الانهيار الاقتصادي فحسب، بل في مصير الدولة اللبنانية وطبيعتها ودورها الوظيفي في المنطقة مستقبلا”.
ويؤكد مدير مركز إشراق للدراسات والباحث الاقتصادي الدكتور أيمن عمر، أن هذا الاتفاق “يخضع لقاعدة رابح – رابح (Win- Win)، وتاليا سيكون توقيع الاتفاق هو النقطة الفاصلة التي ستغير من مسار منحنى الأزمة الانحداري والبدء كمرحلة أولى بالتعافي والانتعاش ولاحقا بالتطور والازدهار والتنمية في لبنان. فالعقوبات المفروضة على لبنان ستُرفع تدريجا وتعود الثقة إلى الداخل اللبناني تدريجا لإرساء نوع من الاستقرار السياسي والأمني من أجل القدرة على تنفيذ الاتفاق والحفاظ عليه، وستبدأ رؤوس أموال أجنبية بالمجيء إلى لبنان للاستثمار في قطاع النفط والغاز وفي بعض الصناعات المرتبطة به، اضافة إلى تأكيد حق لبنان في ثروته الطبيعية وفي استخراجها وبيعها”، وفق عمر. أما في الجانب الإسرائيلي، فإن هذا الاتفاق “سيحيّد الصواريخ والمسيّرات عن حقوله وعن محطات الاستخراج العائمة في البحر، وستتيح له الفرصة لتصدير الغاز، وبعد فترة قصيرة جدا إلى أوروبا واستغلال حاجتها الشديدة إلى الغاز على أبواب الشتاء لتجنب البرد القارس”، يقول عمر، ويضيف: “يمكن اعتبار هذا الاتفاق نوعا من أنواع الهدنة الطويلة تتيح للإسرائيلي الافادة القصوى والسريعة من هذه الثروة، بما يمتلك من تكنولوجيا ورؤوس أموال ودعم أميركي ودولي يتيح له ذلك”.
أما بالنسبة الى الجانب الاقتصادي والمالي الذي يمكن أن يوفره اتفاق الترسيم، فيشير عمر الى أن “ثمة تداعيات اقتصادية مالية ونقدية مهمة جدا للاتفاق إذا ما تم استغلاله وتنفيذه بشكل جيد، على نحو يمكن تحويل لبنان فعليا إلى دولة نفطية وليس فقط ورقيا”، مؤكدا أنه “يمكن أن يحدث تغييرا جذريا في المالية العامة وفي بنية ومكونات الموازنة العامة من ناحية الإيرادات العامة وتأثيرها على النفقات العامة، فالكثير مما نسمعه عن دولار جمركي وغيره سيصبح في خبر كان على سبيل المثال، ولن تعود الموازنة مخصصة للرواتب والأجور ودفع الدين العام وخدماته وسلفة خزينة للكهرباء فحسب، بحيث ستزداد المقدرات المالية للدولة وقدرتها على تمويل النفقات الاستثمارية والبرامج الاستثمارية ومشاريع البنى التحتية، وهنا لا حاجة إلى “مؤتمر سيدر” ولا غيره، بل وفي تصحيح سلسلة الرتب والرواتب من دون ضغوط تضخمية. وسيصبح لدى الدولة اللبنانية القدرة على تسديد الدين العام وخدمته، عندها ستعود الثقة إلى السوق المالية اللبنانية وسيبدأ الصعود في درجات التصنيف الائتماني من قِبل وكالات التصنيف العالمية بضمانة الغاز والنفط، وما لذلك من انعكاسات مهمة في عودة التمويل الأجنبي إلى الداخل اللبناني. وسينعكس كل ذلك على عودة الاستقرار النقدي حيث ستتكوّن احتياطات جديدة من الدولارات في مصرف لبنان والقدرة على التحكم بسوق الصرف عند اختلاله، والقدرة إذذاك على لجم الأسعار والتضخم، وعودة المصارف إلى لعب دورها الطبيعي كناظمة للحياة الاقتصادية ووسيط بين المدخر والمقترض وتمويل المشاريع الإستثمارية والإنتاجية. والأهم من ذلك ستتغير بنية النموذج الاقتصادي وطبيعته مع ظهور قطاع جديد هو قطاع النفط والغاز الذي يمكن أن يكون قاطرة لكل قطاعات الاقتصاد وتطوير بعضها، عندها من الممكن أن نشهد زيادة متتالية في معدل نمو الناتج المحلي وفي متوسط نصيب الفرد منه، وتوفير فرص عمل وشدّ الادمغة واليد العاملة للبقاء في لبنان. المشكلة الأهم والتي تسببت بنصف الأزمة الحالية وهي الكهرباء، ستُحلّ عبر توفير الفيول بشكل مستدام”.
ولكن مهلا… كل هذه الصورة الوردية ستبقى في اطار الاحلام إذا لم تتوافر شروط عدة وهي متممة للترسيم على المستوى الوطني. أول هذه الشروط وأهمها وفق ما يقول عمر “الخروج من عقلية المحاصصة والعقلية الطائفية والمذهبية وتطبيق نظرية “ليش الحرايق عنا مش عندهن”، وإلا عندها سنشهد مصطلحا جديدا في القاموس اللبناني هو طائفية ومذهبية النفط والغاز، اضافة الى الإصلاح السياسي والمالي الذي يعتبر من أولى متطلبات ما بعد الترسيم، وانتظام المؤسسات العامة جميعها وخصوصا الدستورية والابتعاد عن الشغور فيها، إقرار تشريعات الحوكمة وتطبيقها، وتفعيل دور القضاء واستقلاليته وامتلاكه الحرية والقدرة على محاسبة الفاسدين، وناهبي ثروات الدولة”.
ويخشى عمر أن “تحل علينا لعنة ما قبل الموارد” كما وصفها صندوق النقد الدولي في أحد تقاريره في العام 2017، تماما كما حدث مع فنزويلا رغم امتلاكها أكبر احتياطٍ نفطي في العالم، ومع غانا والفقر المدقع فيها، ومع سوريا وليبيا والحروب الاهلية فيهما. ولبنان بتركيبته الديموغرافية وتنوعه الطائفي والمذهبي وعقليته التحاصصية مهيأ لذلك وأكثر.
المصدر : النهار