في قاموسِ اللّغة، الأطلالُ هي الآثارُ المتبقيّةُ مِمّا كان قائماً في المكانِ والزّمان، وغالباً ما تُصبحُ حالةً تُحفِّزُ على البكاء، بالرَّغمِ من كونِها بقايا لا قيمة لها. واستناداً لهذا التّوصيف، فإنّ أطلالَ الحكمِ، عندَنا، وقد اقتربَ موسمُ انتقالِها الى غيرِ مَنْ نهبوها، عندما كان كَرمُها ذَهَباً، لم تعدْ تُحفاتٍ بَهِيَّةً تَقرعُ بابَ الزَّمن، خصوصاً بِما خلَّفَه مَنْ تولّاها، في بلادِنا، من رداءةِ العَيش، والكثيرِ من ظُهوراتٍ فارغةِ المُحتوى، باهتةِ القيمة، مُتَدَنِّيَةِ الوطنيّة، تغتالُ الوَعيَ الوطنيَّ لمفهومِ الدولة، ليَثبُتَ، معها، مفهومُ العَمالةِ، والإستهتارِ بالوفاء، والإنتماءُ الى ذِريّةِ الفسادِ الذي بَدَّدَ تَعَبَ الوطنِ والنّاس، إذْ مالَ أهلُ السّلطةِ الى بَريقِ الدّنيا، فكانَ ضَرَرُهم بالوطنِ غيرَ شَحيح.
خلالَ سنواتِ الإستقلالِ، وإِن النَّظريّ، عاينَ الوطنُ الكثيرَ من المُستَرئِسين، والقليلَ من الرّؤساء، لكنّ كَشفَ الحسابِ الذي قدَّمَتهُ بَراويزُ السّلطةِ القبيحةُ والتي تَرَبّعَ في إطارِها مَنْ تَرَبَّعوا على رؤوسِ الناس، أكَّدَ على أنّ لهؤلاءِ استِطابةً فطريّةً لِمَواقِعِها، ومَحاسِنِها، بحيثُ لا تَخمدُ نارُ اشتياقِهم إليها، يَرجونَ تَأبيدَ إقامتِهم في رُبوعِها، ويبتهلونَ لكي تكونَ هذه الإقامةُ أزَليّة. فمواقعُ النِّعَمِ فيها، لا تنضبُ منابعُها التي يبتكرونَ الخبيثَ من الخُطَطِ، وتحتَ مسميّاتٍ وذرائع، لكيّ يَصبَّ خَصبُها في مَجاريهم، فيَذبلُ، بالتالي، كَرْمُ الوطن.
في عهدِ المَكارِهِ، هذا، اقتحمَ الحكمَ مُترَفو الموهبةِ في تسطيحِ مفهومِ الدولة، وفي أدارةِ نَهبِها، وكان حالُهم معها كَحالِ علي بابا مع الكُنوز، فقد استباحوا خزائنَها، بمَكرِ الثّعالب، لكي لا يكونَ في غَلَّتِهم ظَمَأ، وتركَت خدائعُهم المَآثِرَ التي لا تُنسى. أمّا الأطلالُ التي تركَتها هذه المنظومةُ المُلتَصِقةُ بأكثرِ مراحلِ الإنحطاطِ، فهي ناتِجُ فنونِ السَّرقةِ، والإبتزازِ، والتَّنفيعاتِ، والسَّمسرات، بالإضافةِ الى العَمالةِ والتَبَعيّة، لِذا، فإنَّ ما خَلّفوه ليسَ بتاتاً، كما يدَّعي وكلاؤُهُ النَّصّابون، بريئاً من الإِثم، كامِلَ النَّقاءِ، والكرامة. لقد استغلَّ هؤلاءِ عِشرةَ السلطةِ في استدراكٍ لِما فاتَ غيرَهم من خُطَطِ استنزافٍ للمواردِ، وتَحنيطٍ للنموّ، واغتيالٍ للإهتمامِ بمَطالِبِ الناس، وتَسويفٍ للمشاريعِ المُنتِجة، وتَشويهٍ لِطَلَّةِ لبنانَ الحضاريّةِ على العالَم… والحقيقةُ أنَّ مَنْ يعرفونهم، لم يُصدَموا بارتباطِهم العُضويِّ بالخَلقِ الشَّنيعِ الذي كان مَرجعَ تَوَغّلِهم في استنباطِ الموبِقات، خدمةً لمصالحِهم المَقيتةِ، وأهدافِهم البَغيضة… وكلُّ هذا، في الواقع، لم يكنْ، أبداً، ” خِدمةً للبنان”.
” أنا أسرقُ، إذن، أنا موجود “، هو عنوانُ السّلوكِ الذي يُمكنُ أن يتلقَّفَ إغراءَه بعضُ المُستَرئِسين العَتيدين من مُحتَرِفي نَهشِ مقدِّراتِ الوطن. والأَكرَب أنّ هؤلاءِ الباهِتين لا يزالون يُطلِقون تصريحاتِهم المُفَوَّهة، ويكرِّرونَ ظُهوراتِهم الوبائيّة، وكأنّهم مَطالِعُ الشُّموس، وهم لا يدرون بأنّ ذُنوبَهم لن تمرّ، ولن يمرَّ، أيضاً، إستغباءُ النّاس، فلا بدَّ من هزَّةٍ إرتداديّةٍ ثائرةٍ للشَّعبِ المَقهور، وهي هزَّةٌ لن يُسمَحَ بأن تُصابَ بالتَّمييعِ وكأنّها لَمعَةُ بَرقٍ تتلاشى.
نذكرُ جيّداً أنّ الذين وعدوا ولَم يَفوا، كانوا استهلّوا طلّاتِهم بكلامٍ خَشَبيٍّ مُكَرَّر، أسدلَ النّاسُ عليهِ ستارةَ لامبالاتِهم، منذُ زمن، بعدَ أن اختبروا عُقمَه، وزُورَه، وخِدْعَتَه السَّمْعيّة. لقد روَّجَ القابِعونَ على رؤؤسِ الناسِ لعودةِ الدولةِ الى الدولة، أو ” تَقميصِ ” الدولة، وهو كلامٌ لطالما سَمِعْنا مثلَه، ولطالما دارَت رُحى أَلسنَتِهم، في طواحينِ الهواء، من دونِ أن نرى طَحيناً. أمّا تَسويقُ خطّةِ النُّهوض، والتي احتلَّت حَيِّزاً مُهَيمِناً في بياناتِهم وإطلالاتِهم، فلم يكنْ سوى تَرويجٍ إصطناعيٍّ هَشٍّ لتَقطيعِ الوقت، وللضَحِكِ على ” ذُقونِ ” النّاس !!!
إنّ ثاقِبي النَّظَر في شؤونِ اللّعبةِ السياسيّة، والذين بمَقدورِهم التَّمييزُ بين الشِّعاراتِ الخُلَّبيّةِ، وبينَ تَطبيقِها بالفِعل، لم يُعطوا ائتِماناً موثوقاً لما وعدَ به أركانُ هذه المنظومةِ المُرتَهَنَة، وقد تأكّدَ للشاكّينَ ظنُّهم خلالَ سنواتِ الأداءِ العقيم. فالشّعبُ المقموعُ الذي حلمَ بالتّغيير، لم يواجِهْ، في ظلِّ حُكمِ المُستأثِرين، سوى السّقوطِ في هاويةِ الذلّ، والظّلم، والعَوَز، والمَهانة، وخَيبةِ الأمل، والمزيدِ من الضَّعضَعةِ واليافطاتِ الفارغة، وفَرضِ أيديولوجيا اللَّونِ الواحدِ والتي تمارسُ التصفيةَ السياسيةَ بقبضةٍ مُجرِمة… فأينَ البرنامجُ الوطنيُّ النّاضجُ الذي يعمِّقُ قواعدَ الإنتماءِ والولاء، ويُلغي عقليّةَ الإلغاءِ والتَمَيّز ؟ وأين مشروعُ الإصلاحِ الشّامل الذي يحملُ التَّوقَ الى التّغيير ؟ وأينَ النّقلةُ النوعيّةُ الى إستراتيجيّةٍ واعيةٍ تتجاوزُ تشظّياتِ الجولاتِ الماضية، وتتبنّى البُعدَ التّنفيذيَّ للمسيرةِ الوطنيّةِ الواعدةِ التي ينتظرُها الجميع ؟ أين المشاريعُ التي تستهدفُ التَّطويرَ المُستدام، والتي لم تكنْ سوى أهازيجَ ناريّةٍ وحبرٍ على ورق ؟…
وبعد، أيّها الطّارِحونَ أسماءَكم لافتتاحِ عصرِ الإنتقالِ الى زمنِ الدولة، كما نَسمعُ في تَسطيراتِكم، مطلوبٌ منكم ألّا تَقتَبِسوا تُرَّهاتِ مَنْ سبقوكم، والتي أَكَّدَت على تَدَهورٍ دراماتيكيٍّ على مستوى سُلوكِهم الأخلاقيّ، والسياسيِّ، والوطنيِّ، على حدٍّ سواء. ولا تَدَعونا نحشرُكم، معهم، في مَضبَطةِ الإتّهامِ باغتيالِ الحقّ، والإفتراءِ على الحقيقة، ونُتلِفُكم، كما هم، كَومةً مُلَوِّثَةً أَنزَفَتْ قلبَ الوطن، وشَلَّت أَمَلَ أهلِهِ بالأَفضل.
رجاءً، دَعوا الرَّفشَ يَسقطُ من يَدِنا….
المصدر : موقع القوات اللبنانية