المملكة العربية السعودية دولة كبرى في العالم العربي، وهي تعمل ومنذ تبؤ الملك سلمان بن عبد العزيز سدّة الملك فيها لكي تعزّز مكانتها فيه وأيضاً لكي تصبح دولة مهمة في الإقليم ليس فقط بسبب ثروتها الضخمة من النفط والغاز، بل أيضاً جرّاء بدئها عملية تحديث عميقة وشاملة وتطوير وتنويع في المجالات كلها من إقتصادية وإنمائية وتربوية وإجتماعية وعسكرية، وفي الوقت نفسه عملية بناء علاقات صداقة وثقة مع المجتمعات الدولية الكبرى في العالم رغم إنقسامها حالياً الى معسكرين أو ثلاثة متناقضة في الكثير من الأمور.
إلا أنها لا تزال حريصةً على حلفها مع الولايات المتحدة الذي أسّسه مؤسّسها الملك عبد العزيز رغم التباينات في مواقفهما التي ظهرت منذ بدأ عهد الملك سلمان فيها رغم الإغراءات الشديدة التي يقدّمها أخصام الدولة العظمى المذكورة لها كي تسهم في إضعاف علاقتها مع أميركا. لكنها لم تقع في هذا “الفخ” حتى الآن، وقد لا تقع فيه لمعرفتها أن مصالحها الحيوية والوطنية والإقتصادية والأمنية المتنوّعة ترتبط الى حد كبير بالحلف القديم والمستمر هذا.
علماً أن ذلك لا يعني أن الطرف الثاني فيه أي الولايات المتحدة ليست في حاجة هي أيضاً الى استمرار تحالفها مع المملكة. وقد بيّنت ذلك بوضوح التطورات الدولية – الإقليمية الصعبة جرّاء العداء والمواجهة غير المباشرة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية البادئة منذ عام 1979، كما جرّاء غزو روسيا لأوكرانيا الذي وضع العالم كله على شفير حرب عالمية ثالثة قد تكون غير تقليدية في مراحل متقدمة منها. أما الفضل في ذلك فيعود طبعاً الى براغماتية أميركا وإداراتها على اختلاف رؤسائها وتناقضاتهم. لكنه يعود أيضاً وبالمقدار نفسه الى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي وضع بلاده على طريق التغيير شبه الشامل الذي مسّ وجزئياً جداً العادات المرتبطة بالممارسة الدينية رغم عدم ثبوت ذلك، وكل مظاهر الحياة والإقتصاد والإجتماع والتربية وغيرها.
علماً أن هناك أمرين أساسيين لا يستطيع بن سلمان التعرّض لهما، أولهما الممارسة الدينية وجوهر الدين رغم أنه يحاول المحافظة عليهما ولكن مع إبعاد “القسرية” عنهما وتخفيف تأثير ما لحق بهما من أمور وتصرفات ومواقف تفتقد الى إسنادات شرعية ثابتة. أما الأمر الثاني فهو عدم شمول الحريات الإجتماعية والتعليمية والتربوية والإقتصادية و… الحرية السياسية أو بالأحرى عدم السماح بتطوّر سياسي يُضعف مع الوقت سلطة “ولي الأمر”.
ما مناسبة الكلام عن السعودية اليوم؟ لا مناسبة خاصة له. لكن عودة إهتمامها بلبنان بعد سنوات من الإهمال عقاباً له على تحوّله طرفاً في الصراع الإقليمي الدائر ذي الوجه العربي – الإيراني “الفارسي” والوجه الإسلامي السنّي الشيعي والوجه المصلحي، وذلك بإنحيازه الى طهران بعد نجاح حليفها بل إبنها “حزب الله” في تحقيق إنجازات مهمة مثل إنهاء معظم الإحتلال الإسرائيلي للبنان، ومثل إجتذاب تيار مسيحي سياسي قوي تمكّن بواسطته من الإمساك بقوة بلبنان، لكن هذه العودة تقتضي الكلام عن السياسة التي تنتهجها في لبنان جرّاء استحقاقاته السياسية المهمة وإنهيار دولته وفقر معظم شعبه واحتمال زوال إتفاق الطائف الذي رعته وأنهى الحرب وفتح الباب أمام بناء دولة جديدة. لكن اللبنانيين لم يعبروه أو يدخلوه لأسباب طائفية ومذهبية و”أخوية” في آن.
انطلاقاً من ذلك يمكن القول أن السعودية تنطلق من إستحقاق الإنتخابات الرئاسية في لبنان لاستعادة دورها الواسع فيه. لذا من الضروري الخوض في مواقفها من المرشّحين للتربّع على سدّة رئاسته. في هذا المجال يمكن القول واستناداً الى معلومات متابع لبناني لأوضاع بلاده ومداخلات أشقائه العرب فيه ودول المنطقة والعالم الأول أن زعيم “تيار المردة” الزغرتاوي سليمان فرنجية النائب والوزير السابق لا يحظى بتأييد الرياض. علماً أنه بعد إنتهاء ولاية الرئيس الأسبق ميشال سليمان كان حظي بتأييدها له في المعركة الرئاسية كما بتأييد فرنسا والولايات المتحدة والفاتيكان. لكن هذا التأييد الواسع لم يوصله الى قصر بعبدا لإعتراض “حزب الله” حليفه عليه لأسباب صارت معروفة ولتمسّكه بحليفه المسيحي الأقوى في حينه ميشال عون. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما سبب تغيّر الموقف السعودي من فرنجية “المرشّح” للرئاسة اليوم أو المطروح لها؟ المعلومات المتوافرة عند المتابع اللبناني نفسه تشير الى أسباب عدة ومتنوّعة. لكن أهمها إقتناع المملكة بأن علاقةً متينةً لا تزال تربطه بالرئيس سعد الحريري الذي رشّحه للرئاسة بعد سليمان بالتفاهم مع “القوات اللبنانية” وآخرين.
في حين أن علاقتها بالحريري تدهورت منذ تلك المرحلة وعلى نحو بالغ السلبية ومؤسف في آن. علماً أن لا أحد يستطيع أن يدعي أنه يعرف أسباب هذا التحوّل السلبي. لكن أحداً لا يستطيع أن يتجاهل غضب المملكة على فرنجية يوم فضّل عدم تعريض تحالفه “التاريخي” أولاً مع سوريا التي تركت أمر لبنان لـ”حزب الله” جرّاء حربها الأهلية الطويلة وثانياً مع هذا “الحزب”، فانكفأت عن الاستمرار في الترشيح بخطوات عدة اتخذها. علماً أن المملكة في عهد الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد تخشى أن يعيد انتخاب فرنجية الحريري الى الحياة السياسية في لبنان. وهي لا تريد هذه العودة. لماذا؟ هي وحدها تمتلك الجواب عن هذا السؤال.
ما هي الأمور الأخرى التي دفعت السعودية الى العودة السياسية الى الساحة اللبنانية؟
المصدر: النهار – سركيس نعوم