فعلتها السلطات النقدية والمالية في البلاد ورفعت سعر الصرف الرسمي من 1,507 ليرات للدولار إلى 15,000 ليرة للدولار، أي بما يوازي 10 أضعاف، في قرار مفاجىء رمى فيه وزير المال كرته الحارقة ليباغت بذلك الأسواق والمواطنين من دون تقديم أي تفسيرات أو تبريرات لهذه الخطوة العشوائية في ظل ظروف صعبة واستثنائية يمر بها الاقتصاد منذ ما يقارب 3 أعوام. ولكن على ما يبدو ان السلطات المعنيّة اتخذت قرارها بالمضي قدماً في رحلة تعويم أو تحرير تدريجي لسعر الصرف بما يتماشى مع مطالب صندوق النقد الدولي من دون أخذ ما قد ينجم عن ذلك من محاذير قد تطاول الاقتصاد الوطني بكل جوانبه في الاعتبار.
ولئن كان وزير المال في حكومة تصريف الاعمال يوسف الخليل إرتأى ان يعلن قرارا بهذه الاهمية عبر وكالة “رويترز” من دون أي توضيحات على نحو أدى الى بلبلة بين أوساط اللبنانيين، فإن الاجتماعات في مصرف لبنان لم تتوقف منذ اعلان القرار تمهيدا لاجتماع المجلس المركزي الذي سيبحث بالتفصيل في القرار وما يتطلبه من تعديلات على التعاميم في هذا الشأن.
ولعل أبرز هذه الاجتماعات الاجتماع الذي جمع الحاكم رياض سلامة مع جمعية المصارف التي خرج وفدها مطمئنا الى امكان السير بخطة التعافي، وتاليا إقرار كل القوانين التي لا تزال عالقة وتحديدا “الكابيتال كونترول” وهيكلة المصارف والسرية المصرفية. فقد سمع الوفد من الحاكم ان المجتمع الدولي يحض المسؤولين في لبنان على التعجيل في تنفيذ المطالب الاصلاحية والاتفاق مع صندوق النقد، وأن المعنيين في لبنان أصبحوا مقتنعين بالسير قدماً بكل ما من شأنه تسهيل توقيع الاتفاق مع الصندوق. وكانت اسئلة من الوفد عما اذا كان تطبيق سعر الصرف الجديد سيشمل كل القروض المصرفية، فأكد الحاكم، وفق ما تقول مصادر المجتمعين، أن القروض السكنية ستُستثنى من القرار، وستبقى على سعر صرف الـ 1500 ليرة، فيما القروض الشخصية الاخرى سيبحث مصيرها في اجتماع المجلس المركزي مع ارجحية أن تُسدد على سعر الصرف الجديد، علما أن المصادر أكدت أن معظم قروض التجزئة بالدولار سُددت تقريبا، بينما لا يزال حجم القروض السكنية كبيرا.
ولكن ما هي ايجابيات القرار وسلبياته؟ الأمين العام المساعد ومدير الأبحاث في اتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو، فصّل لـ”النهار” التداعيات “القاسية” للقرار وخصوصا على مشهد تضخم الأسعار، علما أن نسبة تضخم تجاوزت الـ1,000% منذ نهاية العام 2019 وفق أرقام الإحصاء المركزي، جعلت لبنان يحتل المرتبة الأولى عالميا وفق نِسب تضخم الأسعار. واعتبر قانصو أن “رفع سعر الصرف الرسمي بالتوازي مع رفع سعر صرف الدولار الجمركي سيكون لهما تأثيرات واضحة على مجمل أسعار السلع والخدمات، من أسعار السلع المستوردة والمحلية عموما إلى كل العقود المقوّمة بالدولار كالإيجارات ورسوم القيمة التأجيرية، ناهيك عن كل رسوم الدولة وضرائبها، يضاف إليها أسعار ما تبقّى من سلع مدعومة كالطحين وأدوية السرطان والأمراض المزمنة”.
ولم تفت قانصو الاشارة الى “مفاعيل الضريبة على القيمة المضافة والتي ستُحتسب بعد إلحاق الدولار الجمركي وسعر الصرف الرسمي الجديد بتركيبة سعر أي سلعة، ناهيك عن القروض المصرفية المقوّمة بالدولار من قروض سيارات وقروض شخصية أخرى، باستثناء القروض السكنية التي لن تكون خاضعة حتى الساعة لتغيير في سعر الصرف. من هنا، فإن هذا الواقع المستجد ينذر بتفلت أكبر في الاسعار، خصوصا إذا لم تتفعل الرقابة على آلية التسعير المعتمدة، ما يعني باختصار أننا أمام مزيد من التآكل في القدرة الشرائية، وتاليا المزيد من الإفقار مع حرمان اللبنانيين أي شبكة أمان اجتماعي”.
إن رفع سعر الصرف الرسمي على هذا النحو الصاروخي والعشوائي من دون أي تدرّج ومع غياب فاضح لأي دراسات كافية من المعنيين لتقويم تداعياته المرتقبة على كل جوانب الاقتصاد الوطني، يشكل بحد ذاته جريمة اقتصادية وفق ما يقول قانصو، “في وقت يعاني الاقتصاد الوطني من انكماش حاد، إذ إن تآكل القدرة الشرائية سيخفّض حُكماً مستوى الاستهلاك، ما يعني تراجعا إضافيا في حركة الاستيراد الذي سيزيد بدوره من حدة الإنكماش الاقتصادي، لاسيما أن أجور القطاع العام في لبنان لن ترتفع في المتوسط أكثر من 3 أضعاف، في وقت من المرتقب أن يرتفع كل من سعر الصرف الرسمي والدولار الجمركي بـ10 أضعاف، وان من المتوقع أن يعدّل مصرف لبنان التعميمين 151 و158 ليتماشيا مع سعر الصرف الجديد، وتُسدّد بذلك الودائع المصرفية بالدولار على أساس سعر صرف 15,000 ليرة. ولكن قد يلجأ المركزي إلى خفض سقف السحوبات المصرفية من 3,000 دولار شهريا على سبيل المثال إلى النصف تقريبا للإبقاء على نفس المبلغ الذي كان يُسحب في السابق”.
بالنسبة الى الشركات يرى قانصو أن “قرار وزير المال سيكون له تداعيات ثقيلة على رساميل الشركات والمصارف التي كانت تعدّ ميزانياتها بالليرة والدولار والتي كانت تودع رساميلها بالليرة على سعر صرف 1,500 ليرة للدولار، أي أن شركة برأسمال مليون دولار على سبيل المثال، أي ما يوازي مليارا ونصف مليار ليرة سابقاً، سيصبح رأسمالها نحو 100 ألف دولار، وهو ما من شأنه أن ينعكس سلبا على الشركات المرتبطة بالعمل مع الخارج أو تلك العاجزة عن رفع رأسمالها في ظل ظروف كهذه، ما يعني أيضا أن ملكية هذه الشركات قد تتغير بحسب قدرة المساهمين فيها على ضخ الأموال لرفع رأسمالها، فضلاً عن أن الضرائب والرسوم ستستحق عليها على أساس سعر الصرف الجديد”.
واذا كان رفع سعر الصرف الرسمي قد يساهم “نظرياً” في لجم الطلب على الدولار في ظل تآكل القدرة الشرائية والاستهلاكية الكابح لعمليات الاستيراد، ولكن في المقابل، يرى قانصو أن “هذا القرار من شأنه أن يضخّم الكتلة النقدية بالعملة الوطنية، لأن التحصيل والدفع سيكون كله بالليرة اللبنانية على أسعار متضخمة، بما سيغرق السوق من جديد بأحجام كبيرة من الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، على نحو قد يجعلها ترخي بثقلها على سعر الصرف في السوق الموازية، بشكل غير مباشر، لاسيما في ظل تفلت السوق الموازية الناجم عن غياب الرقابة وفقدان الثقة وعمليات المضاربة من التجار والمحتكرين أو غيرهم من المستفيدين”. وفي وقت فقد مصرف لبنان قدرته نسبيا على تمويل التعميم 161، فإن ذلك يعني أن سعر الصرف في السوق الموازية قد يتبع مسارا تفلّتيا جديدا إن لم يترافق مع إجراءات تصحيحية بنيوية هي وحدها كفيلة بتغيير مسار سعر الصرف في المدى المتوسط.
قرار وزير المال الرامي إلى تعديل سعر الصرف الرسمي بالاستناد إلى المادتين 75 و83 من قانون النقد والتسليف، كما أشار في بيان وزارة المال، يشكل ثغرة قانونية ويفسح في المجال أمام العديد من الانتقادات حول قانونية هذا القرار، إذ إن هاتين المادتين لا علاقة لهما بمسألة تحديد سعر الصرف وإنما تصبّان في خانة آلية تمويل الخسائر التي يتحمّلها مصرف لبنان بسبب فروقات سعر الصرف من جرّاء تدخلاته بائعاً وشارياً في سوق القطع، بشكل استثنائي، عبر استعمال جزء من الاحتياطات الأجنبية لديه، وبالتالي ما حصل هو بمثابة محاولة تغطية قانونية للمرحلة الماضية على مدى السنوات الثلاث المنصرمة تحديدا، وتاليا شطب قيمة الخسائر للمرحلة المقبلة.
لا شك في أن تحرير أو تعويم سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار هو مطلب اقتصادي لتوحيد أسعار الصرف المتعددة وإنهاء حال الفوضى السائدة في سوق الصرف، ولكن في الاقتصادات المدولرة وغير المتقدمة كما هي حال لبنان، فإن تحرير سعر الصرف قد يكون له تداعيات سلبية على الاقتصاد، وتاليا ثمة متطلبات أساسية لتفادي تداعيات عملية التعويم المرتقبة، إذ وفق قانصو “يحتاج تحرير سعر الصرف إلى استقرار اقتصادي، وتحديدا اقتصاد منتج يحقق نِسب نمو اقتصادية، لتحقيق بعض التوازن في النظام المالي ولضبط سعر الصرف بعد التعويم، وهو ما يفتقده لبنان اليوم في ظل انكماش حاد في الناتج المحلي الإجمالي من نحو 50 مليار دولار إلى ما دون 19 مليار دولار”.
كما تحتاج العملية برأيه إلى استقرار سياسي، “إذ إن أي خضة سياسية قد تؤدي إلى تفلت كبير في سعر الصرف، عدا عن غياب أي مكافحة للفساد وشفافية مطلقة في السياسة الاقتصادية والمالية والنقدية وقدرة المؤسسات المالية المرجعية على التدخل لضبطه في حال حدوث خضات سياسية أو اقتصادية، وهو ما يفتقده اليوم مصرف لبنان في بلد تكثر فيه الخضات السياسية والاقتصادية ويعاني من سوء إدارة وفساد متغلغل”. ويؤكد قانصو استحالة “تحرير سعر الصرف قبل تحديد الخسائر المالية وتوزيعها ومعالجتها، فاللحظة التي سيتم فيها اعتماد سعر صرف عائم وموحد، بشكل يعكس قيمة الدولار الفعلية بحسب موازين العرض والطلب، ستكون لحظة انكشاف كتلة ضخمة من الخسائر المتراكمة داخل مصرف لبنان والمصارف، بعد أن يصار الى تقويم الالتزامات الضخمة للمودعين بحسب قيمة الدولار الجديد في مقابل الموجودات الضئيلة بالعملات الصعبة”.
باختصار، إن ضبط سعر الصرف بعد تعويمه يحتاج إلى استعادة للثقة، و”تاليا إلى تدفق للعملة الصعبة من الخارج، وهو ما سيعتمد على قدرة الخطة الإنقاذية على إعادة الانتظام المالي ومعالجة الخسائر بشكل جذري، فيما المضي في تعويم حرّ لسعر الصرف في ظل هذه الظروف المأسوية ومن دون معالجة الاختلالات الماكرو اقتصادية القائمة يشكل بحد ذاته جريمة اقتصادية واجتماعية قد لا تُغتفر”.
المصدر: النهار – سلوى بعلبكي