يتقدّم ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة، على وقع لقاءات الوسيط الأميركي آموس هوكستين على هامش أعمال الجمعيّة العموميّة للأمم المتحدة في نيويورك. لكن التسريبات التي تحدّثت عن التوصل إلى اتفاق ربما غالت بعض الشيء، حاول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي توصيف الواقع كما هو، فأوضح من نيويورك أنّ خطوات اتفاق ترسيم الحدود إيجابيّة، لكنّها ليست نهائية.
لا شكّ أنّ تزخيم ملف الترسيم في هذه المرحلة بالذات، حيث بلغت الأزمة الماليّة والإقتصادية مستويات غير مسبوقة، عزّز الآمال بقدرة الثروة المدفونة في أعماق البحار على انتشالنا من قعر جهنم، وأضحى المخزون الموعود بمثابة النافذة الوحيدة للخروج من المأزق، بغياب أيّ أفق للحل، وبظل تعطيل تأليف الحكومة حتّى يومنا، والغموض الذي يكتنف مصير الإستحقاق الرئاسي. لكن ماذا عن حجم هذه الثروة؟ هل ستحيل لبنان من بلد مفلس إلى بلد ثري؟
اختلفت التكهنات حول حجم الثروة، البعض تحدّث عن أرقام خياليّة تصل إلى 1700 مليار دولار، فيما تحدّثت تقديرات أوليّة أن هناك 30 تريليون قدم مكعب من الغاز و660 مليون برميل من النفط السائل.
لا يملك لبنان مسوحات دقيقة، يشير الخبير الإقتصادي الدكتور بلال علامة لـ “لبنان 24″، كما أنّ لبنان ليس لديه شركات للتنقيب عن النفط والغاز، والشركات التي ستُلزّم تأخذ نسبة عاليّة من الأرباح تترواح بين 20 و 40%، كما أنّها تستقدم فرقها “باعتقادي الحديث عن مردود يقدّر بالآف المليارات من الدولارات مبالغ به، والمردود الصافي للبنان قد لا يتجاوز مليار ونصف مليار دولار سنويًّا”.
بصرف النظر عن لغة الأرقام، لا شك أّنّ استخراج الغاز عملية إيجابيّة من ناحية الإستقرار المستقبلي، من شأنها أن تعدّل في المقاربة الدولية تجاه لبنان، ليكون التعاطي الدولي مع لبنان مختلفًا، ليس فقط لأنّه يصبح بلدًا منتجًا للنفط والغاز، بل لأنّ الإتفاق من شأنه أن يضع الصراع العربي الإسرائيلي “على الرف” يقول علامة كونه يمنح الغطاء الدولي لتثبيت الإستقرار.
تحرّك ملف الترسيم على وقع حاجة واشنطن لغاز المتوسط في حربها الإقتصادية ضد روسيا
ترسيم الحدود البحرية في هذه البقعة الجغرافية من المتوسط يبدو حاجة دولية، خصوصًا بعد الحرب الروسيّة الإوكرانية وشح الغاز الروسي إلى أوروبا، بحيث تدفع واشنطن باتجاه إخراج روسيا من الإقتصاد الأوروبي وفك ارتباطه بالغاز الروسي، عبر تنويع المصادر البديلة، منها توريد غاز شرق المتوسط إلى أوروبا. من هنا نرى أنّ التفاوض الذي تعمل عليه واشنطن يتجاوز ترسيم الحدود ليشمل نقل الغاز في مرحلة الإنتاج، يلفت علامة “وهو ما تشير إليه حركة هوكشتين المكوكيّة، بحيث زار لبنان مؤخرًا آتيًا من فرنسا، قبل أن تشمل جولته إسرائيل وقطر، وفي جولته أجرى اجتماعات مع الشركات لا سيّما ائتلاف الشركات أي “توتال” الفرنسيّة و”آني” الإيطالية، وجرى بحثٌ عن إيجاد بديل لـ”نوفاتيك” الروسيّة التي انسحبت من كونسورتيوم الشركات، وتمّ التداول بامكان أن تستحوذ قطر على حصّة “نوفاتيك”. بالتالي يتمحور التفاوض حول تأمين الإستثمار الكافي للتنقيب والإستخراج، وتأمين الخطوط لنقل الغاز، سواء عبر البواخر أو من خلال الأنابيب، منها الأنبوب القطري. بالمقابل تقوم كل من “توتال” و”آني” بالتنسيق مع اليونانيين لتأمين النقل في المقلب الآخر باتجاه مصر. وهكذا تبدو العملية التفاوضية ليست ترسيمًا بالمعنى الجغرافي، إنما تقاسم الإيرادات المستقبليّة بالمعنى الإقتصادي، بدءًا من حجم الإستثمار المتوقع وصولًا إلى النقل،خصوصًا أنهّ لن تقدم أيّ شركة على التنقيب قبل تأمين كيفية التصرّف بهذا الغاز. أما النفط فهو خاضع لمعادلة مختلفة، انطلاقًا من صعوبة استخراجه ونقله، كونه يحتاج للمرور بمحطات تكرير”.
ماذا عن تأثير الترسيم البحري على التفاوض مع صندوق النقد الدولي؟ هل يسرّع في التوصل إلى الإتفاق الموعود مع الصندوق؟
اتفاق الترسيم في حال حصوله، له تأثيرات معنوية على مفاوضات صندوق النقد، وفق مقاربة علامة، فهو يساهم في استعادة جزء من الثقة، لكنّه ليس عاملًا حاسمًا في التوصل إلى برنامج مع الصندوق، كون الأخير يقدّر في تقريره الأخير الخسائر المباشرة للقطاع المصرفي بحدود 80 مليار دولار، تضاف إلى خسائر الدولة اللبنانية ليتجاوز المجموع الـ 150 مليار دولار. وهو رقم كبير، فضلًا عن علامات استفهام حول كيفية إدارة ثروة النفط والغاز، كي لا تُهدر أسوة بالنهج المتبع في إهدار المليارات. “حجم الخسائر الكبير إضافة إلى تعقيدات استخراج الثروة النفطيّة، أخشى أن يقود إلى ما يُعمل عليه البعض لجهة التصرّف بأملاك الدولة، وهو ما أشار إليه القيادي السابق في حركة أمل محمد عبيد في حديث صحفي في أيار 2022، والذي كشف أن النائب جبران باسيل أجرى دراسة كاملة لبيع أملاك الدولة، وأنّه كلّف مؤسسة متخصّصة بإجراء مسحٍ لكل أملاك الدولة وموجوداتها، وأُنجز التقرير وسُلّم إليه. وهنا أخشى وجود اتجاه للتصرّف بأملاك الدولة، ومنها توظيف عائدات الذهب في ملف النفط والغاز لتغطية السماوات بالقبوات” وفق علامة.
بالخلاصة التوصل إى اتفاق لترسيم الحدود البحرية، لا يكفي وحده لإنقاذ البلد من الأزمة المالية والإقتصادية، خصوصًا أنّ مرحلة التنقيب والإستخراج تستغرق وقتًا لا يقل عن سبع سنوات، والإيجابيات المعوّل عليها تحتاج إلى حسن إدارة ملف النفط والغاز وحسن استغلال الثروة.
لبنان 24