يحافظ لبنان بثبات على موقعه الكارثي في قائمة الدول الأكثر ارتفاعاً في معدلات التضخم بعدما وصلت إلى أرقام قياسية منذ بدء الأزمة في خريف العام 2019 وحتى اليوم، مسببة موجة غلاء فاحشة أصابت السلع الغذائية والمواد الاستهلاكية كافة. إذ وبحسب تقرير جديد صادر عن البنك الدولي، جاء لبنان في المركز الثاني عالمياً على مؤشر البنك لتضخم أسعار الغذاء بنسبة 240 في المئة، في حين حلّت زيمبابوي في المركز الأول بنسبة 353 في المئة وفنزويلا في المركز الثالث بنسبة 131 في المئة.
وفي هذا الاطار، أعلنت إدارة الاحصاء المركزي في رئاسة مجلس الوزراء، ارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان لشهر آب 2022، بنسبة 7,55 في المئة مقارنة مع شهر تموز الفائت، مشيرة إلى أن المؤشر سجّل في شهر آب 2022 ارتفاعاً قدره 161,89 في المئة مقارنة مع الشهر نفسه في العام الماضي، في حين بلغ تضخم أسعار الاستهلاك خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري 61,34 في المئة لتشكل بذلك هذه النسبة المرتفعة انعكاساً واضحاً للموجة التضخمية التي تضرب لبنان جراء انهيار الليرة وارتفاع تكلفة الاستيراد وأسعار الأغذية والمحروقات عالمياً ومحلياً.
آثار معدلات التضخم السلبية وارتفاع مؤشر أسعار الاستهلاك والتي انعكست بصورة مباشرة على الأسر المتوسطة والفقيرة عمّقت من تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية. فارتفاع قيمة الغذاء والبنزين والمازوت والغاز والمياه ومولدات الكهرباء والخبز والأدوية، أوقع هذه الأسر في فخ الخسارة بعدما فقدت رواتبها وأموالها المدخرة سواء في المنازل أو المصارف بلا أي قيمة نتيجة تآكل قوتها الشرائية بصورة تامة. كما أن تضخم الأسعار الذي تجاوز بكثير معدل النمو في الأجور والرواتب غيّر بصورة غير رسمية موقع أصفار الليرة اللبنانية من اليمين إلى اليسار، فأصبحت لا تساوي شيئاً بعدما خرجت الأمور عن السيطرة وفقدت معظم الأسر الأدوات المالية التي تُوفر لها الأمان المالي والحماية من تداعيات التضخم المفرط الذي قلّص القيمة الحقيقية للعملة الوطنية.
ومع مرور كل هذا الوقت على الأزمات، بات من الواضح أن عجز لبنان عن معالجة معضلة التضخم يعود بصورة مباشرة إلى الفشل في اتخاذ خطوات نقدية ومالية تُسهم في إعادة الاعتبار الى العملة الوطنية، خصوصاً أن أمد الأزمة قد طال من دون أي خطة تعاف اقتصادية موحدة تفرمل من حدة المعدلات الكارثية. وعلى الرغم من الاقتراحات التي تدعو إلى حذف الأصفار (استبدال العملة القديمة بأخرى جديدة تكون قيمتها أقل بمقدار عدد الأصفار المخفضة) من العملة اللبنانية، إلا أن الشروط لذلك لا تزال غير متوافرة في الوقت الراهن خصوصاً وأن استقرار سعر صرف الدولار واستعادة الثقة لا يزالان بعيدي المنال، فضلاً عن أن طباعة عملة جديدة تتطلب إجراءات من المصرف المركزي لن يكون قادراً على اتخاذها.
تكثر التحديات مؤخراً على معدلات التضخم التي لا تزال عند ثلاثة أرقام في ظل ترقب حذر لمسار الدولار في الفترة الراهنة ووسط انخفاض ملحوظ في احتياطي المصرف المركزي إلى ما دون الـ 10 مليارات دولار وانهيار الايرادات والإنفاق المكبوت بصورة كبيرة، وذلك بحسب تعبير صندوق النقد الدولي، الذي أشار إلى أن الاقتصاد اللبناني لا يزال يعاني من ركود شديد بسبب استمرار حالة الجمود بشأن الاصلاحات الاقتصادية مع توقعات بانكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة تزيد عن الـ 40 في المئة. ومع استمرار الدورة التضخمية وعدم امتلاك الحكومة أدوات ناجعة لمعالجة مشكلة تمويل زيادة الرواتب والأجور التي أقرتها في موازنتها في اقتصاد غير منتج وفاعل، لن تسلم معدلات التضخم من الارتفاع تلقائياً، في حين تؤخر عملية الاتفاق مع صندوق النقد والخروج الكلي للاستثمارات الخارجية من تغذية الاحتياطي الأجنبي من جديد، لتجعل بذلك مسألة التوازي بين الأجور والتضخم مهمة صعبة.
المصدر: لبنان الكبير