قد تبدو أنها أحداث متفرقة، لكن إذا ما تم النظر اليها مجتمعة، سيتبين انها تشير الى تطور كبير سيشهده حضور روسيا في الشرق الاوسط عموما ولبنان خصوصا. وتقدم اوساط لبنانية قريبة من موسكو تفسيرات عدة، لكنها تقترب من نتائج حرب اوكرانيا التي دخلت في الايام الاخيرة تطورا كبيرا يتمثل في بدء تراجع روسيا في هذه الحرب.
من اهم هذه الاحداث والتي تصب في إطار تغيير الحضور الروسي في لبنان والمنطقة، القرار الاخير الصادر عن مجلس الامن الدولي الرقم 2650 المتعلق بتمديد عمل قوات “اليونيفيل” في جنوب لبنان سنة كاملة بدءا من نهاية آب الماضي. في هذا القرار اكد المجلس أن “اليونيفيل” لا تحتاج إلى إذن مسبق أو إذن من أي شخص للاضطلاع بالمهام الموكولة إليها، وأنه يُسمح لها بإجراء عملياتها بشكل مستقل. ويدعو الأطراف إلى ضمان حرية حركة “اليونيفيل”، بما في ذلك السماح بتسيير الدوريات المعلنة وغير المعلن عنها. وقد رأى الوكيل الشرعي العام للسيد علي خامنئي في لبنان الشيخ محمد يزبك “ان قرار مجلس الامن باعطاء القوات الدولية في الجنوب “اليونيفيل” حرية الحركة، تطور خطير يحوّل القوة الدولية الى قوات احتلال”.
ما لم يُشر اليه “حزب الله”، هو ان قرار مجلس الامن لا يمكن ان يصدر لو كان هناك قرار روسي بممارسة حق النقض (“الفيتو”)، باعتبار ان موسكو تتمتع بهذا الحق.
من الاحداث أيضا، تأجيل الزيارة التي كان من المزمع أن يقوم بها نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الى لبنان في وقت سابق من هذا الشهر. وفي رأي الاوساط القريبة من موسكو، كما علمت “النهار”، ان مشاورات جرت بين المسؤول الروسي وهذه الاوساط بغية معرفة جدوى هذه الزيارة، فانتهت الى ان هناك غموضا في الداخل اللبناني قد يؤدي الى توريط الخارجية الروسية في مواقف لمصلحة أطراف ما يؤدي في الوقت نفسه الى خلق مشكلة للجانب الروسي في العلاقات مع سائر الاطراف. وكانت النصيحة التي تلقّاها بوغدانوف من بيروت، ان من الافضل ألّا تكون له زيارة لبيروت إلا بعد 31 تشرين الاول المقبل، أي تاريخ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. وقد تقبّل المسؤول الروسي هذه النصيحة إيجابا.
ومن الاحداث أيضا وأيضا، ما نشرته “النهار” في التاسع من الجاري عن انسحاب شركة “نوفاتك” الروسية من كونسورسيوم الشركات المتعهدة النشاطات البترولية في الرقعتين 4 و9 في المياه البحرية اللبنانية، ما طرح العديد من التكهنات حول مصير العقود الموقعة واتفاقات الاستكشاف البترولية. وإذا كان التبرير الرسمي الروسي لهذا الانسحاب، كما ورد على لسان الرئيس التنفيذي للشركة ليونيد ميخلسون، هو ان المجموعة الروسية قررت التخلي عن مشاريع لها في لبنان والجبل الأسود بهدف التركيز على نشاطاتها الدولية في منطقة آسيا والمحيط الهادي، فهو ووفقا لقراءة الأوساط المشار اليها آنفا، يعبّر عن حسابات روسية جديدة تتصل بضيق الخيارات أمام الكرملين بعد حرب أوكرانيا.
ما هي الصورة الكبيرة لهذه الاحداث ذات الصلة بلبنان؟ إنها الصورة التي ترسمها حرب أوكرانيا التي تتسارع تطوراتها منذ أيام. وبالامس، وتحت عنوان “أوكرانيا تهزم القوات الروسية في شمال شرق البلاد وتفرض تراجعا”، كتبت “النيويورك تايمز” تقول: “يمثل تراجع روسيا في شمال شرق البلاد أكبر إحراج لقوات الرئيس فلاديمير بوتين الأكبر حجما والأفضل تجهيزا منذ صد محاولتها للاستيلاء على العاصمة الأوكرانية كييف في بداية الغزو. ووسط خسائر فادحة ومشاكل لوجستية وتراجع الروح المعنوية للجيش الروسي، أثار أداؤه استياء بين المدوّنين المؤيدين للكرملين والموالين الأقوياء لبوتين، مما خلق تحديات جديدة للزعيم الروسي”.
وفي مؤشر الى الصدمة وحتى اليأس الذي انتشر في صفوف أشد مؤيدي الحرب صخباً في روسيا، انتقد رمضان قديروف الزعيم القوي للشيشان والموالي القوي لبوتين قيادة الجيش الروسي يوم الأحد الماضي، وأعرب عن استيائه من أدائه في شمال شرق أوكرانيا.
وأيضا، وتحت عنوان “حلم بوتين الإمبراطوري ينهار أمام أعيننا”، كتبت “الدايلي تلغراف” البريطانية امس تقول ان “الهجوم المفاجئ، الذي بدأ قبل ستة أيام، يمكن أن تكون له تداعيات كارثية محتملة على القوات الروسية، حيث يعني الاختراق أن الأوكرانيين الآن في وضع يسمح لهم بتهديد خطوط الإمداد الحيوية لروسيا”.
قبل فترة قصيرة تصاعدت الانتقادات في صفوف الموالين لموسكو داخل النظام السوري على خلفية قصف مطار حلب الذي تحوّل هدفا عسكريا للطائرات الحربية الإسرائيلية. ومردّ هذه الانتقادات ان وسائط الدفاع الروسية القريبة من المطار لا تحرّك ساكنا كي تتصدى للغارات الإسرائيلية. وفي الحسابات الاستراتجية، كما تقول الأوساط اللبنانية، انه لم يعد بمقدور موسكو توفير حماية للتدخل الإيراني في سوريا والذي تطور الى استخدام الطيران المدني لنقل التعزيزات العسكرية بين إيران ومناطق النظام السوري المدعومة من موسكو.
ليس خارج هذه الصورة الكبيرة ما صرّح به في نهاية الأسبوع الماضي رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد، من أن إسرائيل “لن توافق على أن تشكل سوريا محور نقل أسلحة إلى منظمات إرهابية، ولن تقبل بإقامة قواعد إيرانية أو قواعد ميليشيات عند حدودها الشمالية”.
عندما تُظهر هذه التطورات ان موسكو بدأت تتخذ موقف المتفرج على ما يجري في لبنان وسوريا، معنى ذلك ان الكرملين بدأ يوجه تحية الوداع لهذه المنطقة، على ان يتم الإعلان لاحقا عن موعد هذا الوداع؟
احمد عياش – النهار