يشترك لبنان مع الدول الأوروبية بتراجع امدادات المحروقات إليه، بفعل تداعيات الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها على حركة النقل البحري وإمدادات الغاز برّاً إلى أوروبا. لكنه ينفرد في سوء إدارة واقع تراجع الإمدادات، خصوصاً وأن هذه الحالة تترافق مع استمرار تدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.
ولأن امداد المحروقات آخذ بالتراجع، فإن مستوى الحذر يرتفع. ولبنانياً، يتحوّل الحذر إلى قلقٍ من أزمة قد تستفحل شتاءً، ليس فقط على مستوى عدم القدرة على تأمين المازوت لمولّدات الكهرباء، وإنما على مستوى تأمين المازوت للتدفئة.
تقنين التوزيع
تتجدّد دورياً معاناة اللبنانيين مع قطاع المحروقات، سواء في البنزين أو المازوت، فتارةً تشحّ مادة البنزين فتقفل المحطات وتتكدّس السيارات أمامها، وتارة أخرى يفتقر السوق إلى المازوت، فتظهر العتمة بفعل إطفاء المولّدات الخاصة ودخولهم في مرحلة التقنين الذي يتراوح حالياً بين 3 و4 ساعات يومياً.
كميات المازوت لا تصل بالقدر الكافي إلى المحطات. وهذه المرّة، منشأ الأزمة ليس في الداخل بل في الخارج. فبحسب ما يقوله عضو نقابة أصحاب المحطات جورج البراكس، لـ”المدن”، فإن “القسم الأكبر من المازوت يأتي إلى لبنان عبر البحر الأسود. وبفعل التضييق على السفن الروسية ومقاطعتها، باتت الكميات تذهب نحو الهند والصين”.
هذه المعادلة تعكسها الكميات الضئيلة في السوق والبحث عمّا يتوفّر وإن بأسعار أعلى. ومع ذلك “لم تتحوّل القضية إلى أزمة حقيقية ولم تدخل مادة المازوت بالسوق السوداء بعد”، وفق ما يؤكّده أحد أصحاب المحطات، والذي يشير في حديث لـ”المدن”، إلى تخوّفه من تفاقم الوضع “في ظل انفلات السوق وغياب الرقابة واعتياد الناس والمستَغِلين، على السوق السوداء التي شهدها البنزين سابقاً”.
من الكهرباء إلى التدفئة
شح المازوت أوصل سعر الصفيحة إلى نحو 24 دولاراً “إن وُجِدَت”، على حد تعبير أحد أصحاب المولّدات الخاصة. ولصعوبة توفير المازوت “اضطُرَّ أصحاب المولّدات إلى العودة للتقنين. فكهرباء الدولة معدومة، ولا يمكن الرهان عليها للتخفيف من الضغط على المولّدات الخاصة”. ولأن أصحاب المولّدات هم الطرف الأقوى مقارنة بالمستهلكين، فإن “التقنين يصل حالياً إلى نحو 4 ساعات، ومن المرجّح أن يزداد بحسب اتجاه أزمة المازوت”. ووسط مخاوف ازدياد التقنين، لا حول للمستهلكين ولا قوّة، ولا خيار أمامهم سوى تقبُّل الواقع.
بالتوازي، يترك البراكس هامش أمانٍ في السوق لـ”نحو 15 يوماً”. فبرأيه، “سيتحسّن حال السوق لأن أكثر من باخرة محمّلة بالمحروقات دخلت إلى لبنان”. على أنَّ هذا التفاؤل سرعان ما سينضب ويتحوَّل إلى تشاؤم. فعلى حدّ تعبير البراكس “فصل الشتاء سيكون قاسياً”، وستمتدّ المعاناة “حتى شهر نيسان” من العام المقبل. لأن السوق سيحتاج إلى كميات أكبر من المازوت للتدفئة وليس فقط لتأمين الكهرباء.
الحلول الدولية للأزمة الأوكرانية ما زالت بعيدة. وأوروبا تبحث عن طرق لتفادي انعكاس تراجع إمدادات النفط والغاز الذي يُعتَمَد عليه في التدفئة شتاءً. وما يزيد الوضع سوءاً، هو وقف روسيا في نهاية آب الفائت، ضخ الغاز في خط “نورد ستريم 1” الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا. وكانت ألمانيا قد بدأت في وقت سابق بتخزين الغاز وإعادة تشغيل محطات توليد الطاقة التي تعمل على الفحم، وذلك بهدف تخفيف الضغط عن الوحدات التي تعمل بالغاز، لضمان أفضل مواجهة لفصل الشتاء.
وفي المقلب الآخر، إن كانت أوروبا غير قادرة على انتشال نفسها من الأزمة، فكيف بلبنان؟. هذا السؤال الذي لا جواب له خارج المشهد العام القاتم، يعني بأن مادة المازوت قد دخلت لاعباً قوياً على خط الأزمة التي قد تتفاقم في وقت قريب.